لي زميل نصراني، كنت أناقشه في بعض الأسئلة عن الأديان؛ لأثبت له أن الإسلام هو الدين الحق، فسألني عن قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله)، فأريته جوابكم على هذه الشبهة، في السؤال رقم: (164633)، وكانت نسبة القول إلى الجماعة في لغة العرب جزءًا من إجابتكم:
” لسنا نشك في صحة ما ذكره الله تعالى عن أولئك اليهود، ومن أصدق من الله حديثاً؟! ومن أصدق من الله قيلاً؟! لكن هذا اليهودي المُستشكِل يجهل أن لغة العرب يجوز فيها نسبة القول للطائفة والجماعة، ولا يلزم أن تكون من قولهم جميعاً، بل قد يكون القائل بعضهم ويُنسب القول لجميعهم، ومن الحكمة في ذلك ها هنا: أن سكوت باقي الطائفة عن إنكار القول يعني إقرارهم للقول، فيصح – حينئذٍ – أن يُنسب للطائفة جميعها”، فتحداني زميلي بأن آتي بدليل من كتاب من كتب علم اللغة العربية يقر بجواز نسبة القول إلى الجماعة أو الطائفة، وإن كان جميعهم لا يقولونه؟
أريد أسماء الكتب والصفحات، وهو لا يريد دليلًا من الشعر، بل من كتاب في اللغة العربية.
ما دليل جواز نسبة القول إلى الجماعة في لغة العرب؟
السؤال: 432724
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
نسبة الكلام لجماعة والمراد بعضهم أسلوب عربي ثابت ثبوتًا يقينيًا، ومن أوضح أمثلته قول المولى تبارك وتعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ آل عمران/173.
قال الإمام الطبري في “تفسيره” (6/244): “و”الناس” الأوّل، هم قوم -فيما ذكر لنا- كان أبو سفيان سألهم أن يثبِّطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد.
و”الناس” الثاني، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش، الذين كانوا معه بأحد”.
فأنت ترى هنا من كلام الإمام الطبري أن الكلام نسب إلى “الناس”، والمراد بعض الناس لا كل الناس.
ويقول تعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ النور/12.
روى الطبري في “تفسيره” (17/212): “أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟
قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟
قالت: لا والله ما كنت لأفعله.
قال: فعائشة والله خير منك.
قال: فلما نزل القرآن، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَالآية: أي كما قال أبو أيوب وصاحبته”.
فأنت ترى هنا قولًا نسبه الله للمؤمنين بينما قائله هو رجل واحد حدث به امرأته.
وقد قال الإمام الشافعي، في تأصيل ذلك، وبيان هذا الوجه من وجوه الكلام في لغة العرب، في كتابه المشهور الذائع الأهمية والمكانة “الرسالة”:
” باب: بيان ما نزل من الكتاب عامَّ الظاهر، يراد به كلِّه الخاصُّ.
وقال الله تبارك وتعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران/173.
قال “الشافعي”: فإذْ كان مَن مع رسول الله ناس، غير مَن جمَعَ لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسً غيرَ مَن جمُع لهم، وغيرَ من معه، ممن جمُع عليه معه، وكان الجامعون لهم ناساً؛ فالدلالة بيِّنة مما وصفت، من أنه إنما جمع لهم بعضُ الناس دون بعض.
والعلم يحيط أنْ: لم يَجمع لهم الناسُ كلهم، ولم يُخبرهم الناسُ كلهم، ولم يكونوا هم الناسَ كلَّهم.
ولكنه لما كان اسم الناس يقع على ثلاثة نفر، وعلى جميع الناس، وعلى مَن بين جمعهم وثلاثةٍ منهم، كان صحيحاً في لسان العرب أن يقال: ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ ) ؛ وإنما الذين قال لهم ذلك أربعةُ نفر : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) ؛ يعنون المنصرفين عن أُحُدٍ، وإنما هم جماعة غيرُ كثير من الناس، الجامعون منهم، غيرُ المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غيرُ الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غيرُ الجامعين، ولا المجموع لهم ولا المخبرين.
وقال: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الحج/73
قال: فمَخْرَجُ اللفظ عامٌّ على الناس كلهم؛ وبيِّنٌ عند أهل العلم بلسان العرب منهم: أنه إنما يُراد بهذا اللفظ العامِّ المخرجِ: بعضُ الناس، دون بعض؛ لأنه لا يُخاطَب بهذا إلا من يدعو من دون الله إلَهًا، تعالى عما يقولون عُلُوًّا كبيرا؛ لأن فيهم من المؤمنين المغلوبين على عقولهم، وغير البالغين ممن لا يدعو معه إلها.
قال: وهذا في معنى الآية قبلها عند أهل العلم باللسان، والآية قبلها أوضحُ عند غير أهل العلم، لكثرة الدلالات فيها.
قال “الشافعي “: قال الله تبارك وتعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) فالعلم يحيط – إن شاء الله – أن الناس كلهم لم يحضروا عرفة في زمان رسول الله، ورسول الله المخاطبُ بهذا ومَن معه، ولكنَّ صحيحاً من كلام العرب أن يقال: ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ )، يعني بعضَ الناس.
وهذه الآية في مثل معنى الآيتين قبلها، وهي عند العرب سواء، والآية الأولى أوضح عند من يجهل لسان العرب من الثانية، والثانيةُ أوضح عندهم من الثالثة.
وليس يختلف عند العرب وضوح هذه الآيات معا؛ لأن أقل البيان عندها كاف من أكثره، إنما يريد السامعُ فَهْمَ قول القائل، فأقل ما يفهمه به كافٍ عنده.
وقال الله جل ثناؤه: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) البقرة/24 . فدل كتاب الله على أنه إنما وقودها بعضُ الناس، لقول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) الأنبياء/101″. انتهى من “الرسالة” (58-62).
ثانيا:
نص غير واحد من أهل العلم، في مصنفاتهم في العلوم، على هذه القاعدة التي قررناها في الجواب.
فمن ذلك:
قول الإمام المفسر، محمد بن جرير الطبري: “العَرَبَ تُخْرِجُ الخَبَرَ بِلَفْظِ الجَمِيعِ، والمُرادُ واحِدٌ إذا لَمْ تَنْصِبْ لِلْخَبَرِ شَخْصًا بِعَيْنِهِ” الطبري (20/345) ط هجر.
ومن ذلك قول العلامة اللغوي، النحوي، المفسر، أبو القاسم الزمخشري:
” (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ): أُسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم، وإن لم يباشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا، وما فعله إلا واحد منهم “الكشاف، مع حاشية الطيبي” (6/453).
وقال الإمام اللغوي المحقق، أبو الحسين أحمد بن زكريا بن فارس، صاحبي المعجمين العظيمين في لغة العرب: “المقاييس” و”المجمل”؛ قال في كتابه المرجعي: “الصاحبي في فقه اللغة” طبعة دار الكتب العلمية (ص/161-162):
“ومن سُنن العرب: الإتيان بلفظ الجميع والمراد واحد واثنان، كقوله جلّ ثناؤه: وَليَشْهَدْ عذابَهما طائفة يُراد به واحد واثنان وما فوق.
وقال قَتَادةُ في قوله جلّ ثناؤه: إن يُعْفَ عن طائفة منك تُعَذَّبْ طائفة: كان رجلاً من القوم لا يمالِئُهم على أقاويلهم في النبي صلى الله تعلى عليه وآله وسلم، ويَسير مُجانِباً لهم، فسمّاهُ الله جلّ ثناؤه طائفة وهو واحد.
ومنه: إنّ الذين ينادونك من وراء الحُجُرات: كان رجلاً نادى: يا محمَّد! إنّ مدحي زَيْنٌ وإنّ شتمي شيْن، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وأله وسلم: ويلك. ذاك الله جل ثناؤه.
وقال فقد صَغَتْ قلوبكما، وهما قلبان.
وقال: بِمَ يَرجِعُ المرسلون، وهو واحد، يدلّ عليه قوله جلّ ثناؤه: إرجِعْ إليهم“انتهى.
وهذا الكلام التأصيلي: قد نقله عنه السيوطي في “المزهر” (1/262)، ونقله عن السيوطي، واحتج به اللغوي المحقق الأب أنستاس الكرملي في مجلته “لغة العرب” (2/72)، وهو نصراني يسوعي!!
ومن ذلك قول الصحاري:
“والعرب تضيف فعل الواحد إلى الجماعة إذا كانوا راضين بفعله.
قال الله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ، وإنما عقرها واحد، فأضاف فعله إليهم لأنهم كانوا راضين بعقرها، وهو قُدار بن سالف.
قال زهير:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلُّهم … كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
غلمان أشأم، يريد: غلمان شؤم. يقال: شؤم وأشأم، مثل: عجم وأعجم. وأحمر عاد: إنما هو أحمر ثمود. وعاد وثمود عنده واحد؛ لأنهم كانوا في دهر واحد. وكان ثمود أحمر الشعر أزور سناطاً قصيراً.
وقال الله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ؛ لما كانت الأبناء راضية بفعل الآباء من قتل الأنبياء والمعاصي وأشباه ذلك، دخلوا معهم في الإثم، ولزمهم اللوم وشاركوهم فيها أيضاً.
فكذلك تقول العرب: قتلنا وهزمنا وفضحناكم يوم الجفار ويوم النسار، ويوم جبلة، ويوم كذا ويوم كذا، أي قتلت أبناؤنا آباءكم، على مجاز اللغة.
“الإبانة في اللغة العربية” (1/436). .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب