كيف الجمع بين حديث: (أعتقها فإنها مؤمنة)، وحديث سعد رضي الله عنه الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا، وسعد جالس، وفيه عدم وصف الرجل بأنه مؤمن، بل يقال مسلم بحسب الأعمال الظاهرة، وكلام الجارية إنما هو من الأعمال الظاهرة؟
هل تجوز الشهادة لمعين بالإيمان؟
السؤال: 433599
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لا حرج في الشهادة لمعين بالإيمان على معنى دخوله في خطاب المؤمنين، وثبوت الإيمان الظاهر له، وتعلق الأحكام به، كعتق الرقبة المؤمنة، وتحريم أذى المؤمن، والترغيب في التراحم بين المؤمنين ونحو ذلك، لا على وجه التزكية.
فقوله تعالى في كفارة الظهار: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) النساء/92
فالرقبة المؤمنة هنا: هي الرقبة المسلمة، وهذا بحسب الظاهر، فكل رقبة شهدنا لها بالإسلام، هي الرقبة المؤمنة أيضا، وهي التي شرع الله عتقها، وتجزئ في الكفارات.
ولهذا اختبر النبي صلى الله عليه وسلم الجارية ليتبين هل هي مسلمة أو كافرة، فقوله: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) رواه مسلم (537) أي: الإيمان الظاهر الذي تثبته به الذمة، وتجري به الأحكام بين الناس، وهي المسلمة أيضا؛ فتدخل في خطاب المؤمنين، وتتعلق بها أحكامهم.
وهكذا يخاطب كل مسلم بقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) ، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وغير ذلك.
فكل مسلم يخاطب بذلك، وكل مسلم يعتقد أنه داخل في ذلك، وليس هذا من باب تزكية النفس ولا تزكية الغير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وصاحب الجارية، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر، وكذلك من عليه نذر لم يلزمه أن يعتق إلا من علم أن الإيمان في قلبه؛ فإنه لا يعلم ذلك مطلقا؛ بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقا…
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر، الذي عُلقت به الأحكام الظاهرة.
وإلا؛ فقد ثبت عنه أن سعدا لما شهد لرجل أنه مؤمن قال : “أو مسلم”، وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الأمة وزيادة.
فيجب أن يفرَّق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب ؛ فالمؤمن المستحق للجنة لا بد أن يكون مؤمنا في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة” انتهى، من “الإيمان” (ص170).
وأما حديث سعد، وهو ما روى البخاري (27) ومسلم (150) عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: (أَوْ مُسْلِمًا) فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: (أَوْ مُسْلِمًا). ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: (يَا سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ).
فهذا من الشهادة التي يراد بها التزكية، وليس مجرد الدخول تحت خطاب المؤمنين.
وهذا المقام تتفاوت فيه المراتب، وهي ثلاثة: إسلام، ثم إيمان، ثم إحسان، فقد لا يكون الرجل بلغ درجة الإيمان، فكيف يشهد له بذلك؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فأجاب سعدا بجوابين:
أحدهما: أن هذا الذي شهدتَ له بالإيمان: قد يكون مسلما لا مؤمنا.
الثاني: إن كان مؤمنا، وهو أفضل من أولئك؛ فأنا قد أعطي من هو أضعف إيمانا؛ لئلا يحمله الحرمان على الردة فيكبه الله في النار على وجهه. وهذا من إعطاء المؤلفة قلوبهم” انتهى من “مجموع الفتاوى” (7/ 474).
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ” والظاهر – والله أعلم – أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر سعدا عن الشهادة بالإيمان؛ لأن الإيمان باطن في القلب، لا اطلاع للعبد عليه، فالشهادة به شهادة على ظن، فلا ينبغي الجزم بذلك، كما قال: ” إن كنت مادحا لا محالة فقل: أحسب فلانا كذا، ولا أزكي على الله أحدا “.
وأمره أن يشهد بالإسلام: لأنه أمر مطلع عليه، كما في ” المسند ” عن أنس مرفوعا: ” الإسلام علانية، والإيمان في القلب “.
ولهذا كره أكثر السلف أن يطلق الإنسان على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو صفة مدح وتزكية للنفس بما غاب من أعمالها، وإنما يشهد لنفسه بالإسلام لظهوره.
فأما حديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) : فقد خرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، من حديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد مرفوعا. وقال أحمد: هو حديث منكر، ودراج له مناكير” انتهى من “فتح الباري” (1/122).
وقال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله، في التفريق بين المقامين المذكورين، مقام الأحكام الظاهرة في الدنيا، ومقام التزكية، وما يترتب عليه الثواب والعقاب في الآخرة:
“اسْمَ الْمُؤْمِنِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
اسْمٌ بِالْخُرُوجِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَبِهِ تَجِبُ الْفَرَائِضُ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ وَالْحُدُودُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاسْمٌ يَلْزَمُ بِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ اسْمُ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ، يَجِبُ بِهِ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَالْفَوْزُ مِنَ النَّارِ، فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِالْفَرَائِضِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ، الَّذِينَ لَزِمَهُمُ الِاسْمُ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِالْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ.
وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ زَكَّاهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَوَعَدَهُمُ الْجَنَّةَ: هُمُ الَّذِينَ أَكْمَلُوا إِيمَانَهُمْ بِاجْتِنَابِ كُلِّ الْمَعَاصِي، وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ؛ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ نَعَتَ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَعَدَهُمُ الْجَنَّةَ
عَلَى تِلْكَ النُّعُوتِ” انتهى من “تعظيم قدر الصلاة” (2/567).
فالحاصل:
هو التفريق بين مقامين: مقام تسمية الشخص مؤمنا لتتعلق به أحكام المؤمنين، من عتقه أو تحريم أذاه أو تنفيس كربته وغير ذلك.
ومقام تسميته بذلك على وجه التزكية، وأنه في مرتبة الإيمان التي تعلو مرتبة الإسلام، وهذه لا يجزم بها إلا لمن شهد له النص، كما روى أحمد (8042) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ: عَمْرٌو وَهِشَامٌ) وحسنه شعيب الأرنؤوط.
وروى أحمد (17413)، والترمذي (38449 عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَسْلَمَ النَّاسُ، وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ) وحسنه الألباني.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب