إذا كان الحديث صحيحًا، لكن له روايات مختلفة عند البخاري ومسلم، وعند النسائي وأبي داود، فهل يجوز رواية الحديث باختيار الألفاظ المناسبة مِن كلِّ رواية مِن هذه الروايات، يعني من مجموع هذه الروايات، أم لا بد من الالتزام بسياق شخصٍ واحدٍ على أساس أن هذه الروايات مع اختلاف ألفاظها، الأصل أنها لم ترد هكذا في سياقٍ واحدٍ؟
ومثال يحضرني على ذلك، وهذا المثال على سبيل التمثيل فقط على ما أريد من التلفيق والجمع بين الروايات في سياقٍ واحدٍ، وهو: أن في رواية البخاري مثلًا: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَة)، وعند مسلم وغيره: (وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا)، فهنا نلاحظ أن السياق مختلف؛ فإن الحديث الذي عند البخاري ليس فيه: (يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ)، فهل يجوز أن أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَة يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ)، فأكون بهذا نسبتُ الحديث بهذا السياق الملفَّق من مجموع روايتين أو أكثر إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ وإذا كان يجوز؛ فإلى أي مصدر أنسبه، وأنا قد جمعته من رواياتٍ كثيرةٍ؟
ما حكم التلفيق بين ألفاظ روايات الحديث الواحد؟
السؤال: 451481
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
التلفيق بين ألفاظ روايات الحديث الواحد، قد فعله بعض الأئمة في عصر الرواية، كصنيع ابن جريج في حديث جابر، كما روى البخاري (2309) عن ابْن جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يُبَلِّغْهُ كُلُّهُمْ، رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: “كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ …” الحديث.
وكصنيع الزهري في قصة الإفك.
روى البخاري (2661)، ومسلم (2770) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللهُ مِنْهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، زَعَمُوا: أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ… ) الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” قوله: ( وكل حدثني طائفة من الحديث ) أي بعضه، هو مقول الزهري، كما في رواية فليح، ” قال الزهري إلخ ” …
قال عياض: انتقدوا على الزهري ما صنعه من روايته لهذا الحديث ملفقا عن هؤلاء الأربعة، وقالوا: كان ينبغي له أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر ” انتهى من “فتح الباري” (8/ 456).
قال السخاوي رحمه الله تعالى:
” وعلى كل حال فقد صح كون الزهري استعمل التلفيق، وهو جائز، وإن قال عياض مع كونه ممن استعمله كما أسلفته: إنهم انتقدوا عليه صنيعه له، وقالوا: كان ينبغي له أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر. انتهى. والأمر فيه سهل، فالكل ثقات، ولا يخرج الحديث بذلك عن كونه صحيحا ” انتهى من “فتح المغيث” (3/213).
ثم استقر الأمر بعد ذلك عند تخريج الروايات وعزوها إلى مصادرها؛ على تمييز الزيادات؛ لأن هذا الذي تقتضيه أمانة التوثيق؛ ولأن الحكم بصحة أصل الرواية وكون رواة الزيادات ثقات؛ لا يلزم منه صحة الزيادة كما بيّنه أئمة الحديث في مسألة زيادة الثقة.
فعلى هذا إذا أراد الإنسان أن يسوق حديثا له عدة زيادات، فله طريقتان:
الطريقة الأولى:
أن يسوق الحديث بجميع زياداته في سياق واحد، لكن مع التمييز للزيادات عن أصل الحديث بالأقواس ونحو هذا، كما هو صنيع بعض أهل العلم.
والطريقة الثانية:
أن يختار رواية يجعلها الأصل، ثم يسوق الزيادات، كما نراه في مصنفات أهل العلم.
مثال ذلك قول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في “بلوغ المرام” (الحديث رقم 6) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: ( لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ: ( لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ )، وَلِمُسْلِمٍ: ( مِنْهُ )، وَلِأَبِي دَاوُدَ: ( وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ ).
وينبغي أن يعلم أن هناك فرقا بين ذكر الحديث في كتاب مؤلف ، أو ذكره في خطبة أو موعظة ، ففي الكتب المؤلفة ينبغي تحري الدقة ما أمكن ، فتتميز الروايات بعضها عن بعض ، فذلك أكمل وأحسن ، وفي مقام الخطبة والموعظة الأمر فيها أسهل .
وننبه هنا إلى أن سياق الحديث قد يختلف من رواية إلى أخرى؛ فربما وضع الناقل للحديث ملفقا، جملة في سياق لا يحتمله من حيث النظم واللغة ، وإنما تصح في سياقها الأصلي الذي وردت فيه.
فلهذا ينبغي أن يكون على من يترخص في ذلك: أن يكون عالما بمعنى الحديث، عالما بمقتضى اللغة في مثل تلك السياقات.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب