0 / 0

ما الحكمة من اتصاف الله تعالى بصفات يتصف بها المخلوقون؟

السؤال: 467874

ما الحكمة من تشابه وصف الله لنفسه بالبشر، كاليد، والهرولة، والضحك، والغضب، والقدم، وحملة العرش؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

لله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العلا، كما قال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) الأعراف/181.

وقال: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الروم/27.

قال ابن الجوزي رحمه الله: ” قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال المفسرون: أي: له الصِّفة العُليا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهي أنَّه لا إِله غيره” انتهى من “زاد المسير” (3/421).

وأسماؤه وصفاته توقيفية، لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة.

فمن أسمائه العليم والسميع والبصير، ومن صفاته العلم والسمع والبصر والوجه واليدان والضحك والفرح والغضب وغير ذلك مما ورد.

والمخلوق يسمى عليما وسميعا وبصيرا، كما قال تعالى: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) الذارايات/28 ، وقال: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) الإنسان/2.

وليس العلم كالعلم، ولا السمع كالسمع، ولا البصر كالبصر. فصفة كل موصوف تخصه وتناسبه، فعلم الله أزلي، لا يعتريه جهل، ولا يعزب عنه شيء، وقد وسع سمعه الأصوات، فلا يغيب عنه شيء، وهو بكل شيء بصير.
والإنسان موصوف كذلك بأن له يدين ووجها وأنه يضحك ويفرح ويغضب، وليست صفاته كصفات الله، كما أنه ذاته ليست كذات الله. وإنما تتشابه الصفات، إذا قال: وجه كوجه البشر، ويد كأيديهم.

وقد روى الإمام الترمذي في سننه (662) حديثا تضمن نسبة صفة اليد إلى الرحمن جل جلاله : هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ . وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [التوبة: 104]، وَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276] ) .

ثم قال الإمام الترمذي عقبه روايته:  ” وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ فِي هَذَا الحَدِيثِ وَمَا يُشْبِهُ هَذَا مِنَ الرِّوَايَاتِ، مِنَ الصِّفَاتِ، وَنُزُولِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالُوا: قَدْ تَثْبُتُ الرِّوَايَاتُ فِي هَذَا وَيُؤْمَنُ بِهَا وَلَا يُتَوَهَّمُ وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ هَكَذَا . رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبَارَكِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ: أَمِرُّوهَا بِلَا كَيْفٍ. وَهَكَذَا قَوْلُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.

وَأَمَّا الجَهْمِيَّةُ فَأَنْكَرَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَقَالُوا: هَذَا تَشْبِيهٌ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابهِ اليَدَ وَالسَّمْعَ وَالبَصَرَ، فَتَأَوَّلَتِ الجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الآيَاتِ فَفَسَّرُوهَا عَلَى غَيْرِ مَا فَسَّرَ أَهْلُ العِلْمِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ آدَمَ بِيَدِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى اليَدِ هَاهُنَا القُوَّةُ .

وقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: ” إِنَّمَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ إِذَا قَالَ: يَدٌ كَيَدٍ، أَوْ مِثْلُ يَدٍ، أَوْ سَمْعٌ كَسَمْعٍ، أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ، فَإِذَا قَالَ: سَمْعٌ كَسَمْعٍ، أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ، فَهَذَا التَّشْبِيهُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَدٌ، وَسَمْعٌ، وَبَصَرٌ، وَلَا يَقُولُ كَيْفَ، وَلَا يَقُولُ مِثْلُ سَمْعٍ، وَلَا كَسَمْعٍ، فَهَذَا لَا يَكُونُ تَشْبِيهًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] ” انتهى، من “سنن الترمذي” ط شاكر (3/41).

فنقل الإمام الترمذي عن إسحاق بن راهويه وغيره من أئمة السنة: أن وصف الله جل جلاله بصفاته الواردة في كتابه وسنة نبيه ليس من التشبيه في شيء، وأن دعوى التشبيه في ذلك هي من شناعات الجهمية على أهل السنة والجماعة؛ والتشبيه: أن يقول إن يد الله كيد البشر، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولا أحد من أهل العلم والإيمان يقول ذلك البتة، فلم يبق إلا الغلط في فهم الباب، أو الشناعة والكذب على أهل الإثبات.

وممن اعتنى بتحرير الباب، من أئمة السنة، وإبطال دعوى التشابه بين صفات الله تعالى وصفات البشر، ونفي تهمة التشبيه عن أهل السنة: إمام الأئمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة، رحمه الله. قال:

” وزعمت الجهمية، عليهم لعائن الله، أن أهل السنة ومتبعي الآثار، القائلين بكتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه … مشبهة؛ جهلا منهم بكتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقلةَ معرفتهم بلغة العرب، الذين بلغتهم خوطبنا … فاسمعوا الآن أيها العقلاء، ما نذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب، هل يقع اسم المشبهة على أهل الآثار ومتبعي السنن؟

نحن نقول، وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار: إن لمعبودنا عز وجل وجهًا، كما أعلمنا الله في محكم تنزيله، فذوّاه [أي: وصفه] بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك، ونقول: إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، محجوب عن أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية، ونقول: إن وجه ربنا القديم لا يزال باقيًا، فنفى عنه الهلاك والفناء.

ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء … ونقول: إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة … وإن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية …فهل يخطر، يا ذوي الحجا، ببال عاقل مركب فيه العقل، يفهم لغة العرب، ويعرف خطابها، ويعلم التشبيه، أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه؟ وهل هاهنا، أيها العقلاء، تشبيه وجه ربنا، جل ثناؤه، الذي هو كما وصفنا، وبينا صفته من الكتاب والسنة، بتشبيه وجوه بني آدم، التي ذكرناها ووصفناها؛ غير اتفاق اسم الوجه، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم، كما سمى الله وجهه وجها؟!

ولو كان تشبيهًا من علمائنا، لكان كل قائل: إن لبني آدم وجهًا، وللخنازير والقردة، والكلاب، … وجوهًا، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة، والكلاب وغيرها مما ذكرت؛ ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه، لو قال له أكرم الناس عليه: وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد، والدب … ونحو هذا إلا غضب … ولست أحسب أن عاقلا يسمع هذا القائل، المشبهَ وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا، إلا ويرميه بالكذب، والزور، والبهت، أو بالعته والخبل، أو يحكم عليه بزوال العقل، ورفع القلم، لتشبيه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا. فتفكروا يا ذوي الألباب؛ أَوُجوهُ ما ذكرنا أقرب شبها بوجوه بني آدم، أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم؟

فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع، واسم الوجه قد يقع على جميع وجوهها، كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم؛ فكيف يلزم أن يقال لنا: أنتم مشبهة؟ ووجوه بني آدم ووجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم محدثة، كلها مخلوقة، قد قضى الله فناءها وهلاكها، وقد كانت عدما فكوّنها الله وخلقها وأحدثها، وجميع ما ذكرناه من السباع والبهائم لوجوهها: أبصار وخدود وجباه وأنوف وألسنة وأفواه وأسنان وشفاه، ولا يقول مركبٌ فيه العقل- لأحد من بني آدم: وجهك شبيه بوجه الخنزير، ولا عينك شبيهة بعين قرد، ولا فمك فم دب، ولا شفتاك كشفتي كلب، ولا خدك خد ذئب؛ إلا على المشاتمة، كما يرمي الرامي الإنسان بما ليس فيه!!

فإذا كان ما ذكرنا، على ما وصفنا، ثبت عند العقلاء وأهل التمييز، أن من رمى أهل الآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، بالتشبيه: فقد قال الباطل والكذب، والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج من لسان العرب” انتهى، من “كتاب التوحيد” لابن خزيمة (1/53-56).

ثانيا:

وأما ما سألت عنه من الحكمة عن “اتصاف الله بصفاته الحسنى، والبشر يتصفون بـ”جنس هذه الصفات”، وهو ما أسميته: بـ”صفات البشر”؟

فيقال :

أولا : قد نبهنا في الفقرة الماضية أن الله عز وجل اتصف بصفاته اللائقة به سبحانه، وأن البشر يتصفون من هذه الصفات بما يليق بهم؛ والله عز وجل: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الشورى/11.

ثانيا: ينبغي أن يفرق هنا بين أمرين :

الأول: اتصاف الله جل جلاله بهذه الصفات التي ذكرها لنا في كتابه، في نفس الأمر، بغض النظر عن اللغة التي يعبر بها ؟

ولا نظن أن هذا هو مراد السائل بسؤاله، فإنه لا يقول عاقل، آمن بربه وعرفه : لم كان رب العالمين: قادرا، سميعا، بصيرا، عليما، خبيرا .. ؟ فإن ذلك السؤال، إن قاله قائل، في الصفات على وجه العموم، كان أقرب إلى أن يكون مسفسطا، لا سائلا، مستفهما!!

ومع ذلك، فيقال في جوابه على جهة الإجمال:

1- إن من لا يتصف بتلك الكمالات: لا يصلح أن يكون إلها أصلا، ولهذا ضرب الله المثل لآلة المشركين الباطلة، بما يبين عجزهم، ونقصانهم عن مقام الألوهية؛ فقال سبحانه: ( أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) الأعراف/191-198.

يقول ابن كثير، رحمه الله: ” هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تنصر، ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد، لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم؛ ولهذا قال: أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون أي: أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئا ولا يستطيع ذلك، كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:73، 74]. أخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها، ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو استلبتهم الذبابة شيئا من حقير المطاعم وطارت، لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها، فمن هذه صفته وحاله، كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى: لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أي: بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل: قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون [الصافات:95، 96]

ثم قال تعالى: ولا يستطيعون لهم نصرا أي: لعابديهم ولا أنفسهم ينصرون يعني: ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما كان الخليل، عليه الصلاة والسلام، يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة، كما أخبر تعالى عنه في قوله: فراغ عليهم ضربا باليمين [الصافات:93]

وقال تعالى: فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون [الأنبياء:58]، وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما -وكانا شابين قد أسلما، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة -فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ويرتئوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح -وكان سيدا في قومه -كان له صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا، ويقول له: انتصر!! ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا، حتى أخذاه مرة، فقرنا معه جرو كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك، نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، وقال:

تالله لو كنت إلها مستدن … لم تك والكلب جميعا في قرن

ثم أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه.

وقوله: وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون يعني: أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها، كما قال إبراهيم: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [مريم:42] ؟

ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها، أي: مخلوقات مثلهم، بل الأناسي أكمل منها، لأنها تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك.

وقوله: قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون أي: استنصروا بها علي، فلا تؤخروني طرفة عين، واجهَدوا جهدكم! إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين أي: الله حسبي وكافيَّ، وهو نصيري، وعليه مُتَّكَلي، وإليه ألجأ، وهو وليي في الدنيا والآخرة، وهو ولي كل صالح بعدي. وهذا كما قال هود، عليه السلام، لما قال له قومه: إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم [هود:54-56]، وكقول الخليل عليه السلام: أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * [والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين] [الشعراء:75-80] الآيات، وكقوله لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون [الزخرف:26-28].

وقوله: والذين تدعون من دونه إلى آخر الآية، مؤكد لما تقدم، إلا أنه بصيغة الخطاب، وذلك بصيغة الغيبة؛ ولهذا قال: لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون.

وقوله: وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، كقوله تعالى: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير] [فاطر:14].

وقوله: وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون إنما قال: ينظرون إليك أي: يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة، وهي جماد؛ ولهذا عاملهم معاملة من يعقل؛ لأنها على صور مصورة كالإنسان، فقال وتراهم ينظرون إليك فعبر عنها بضمير من يعقل.

وقال السدي: المراد بهذا (6) المشركون وروي عن مجاهد نحوه. والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير، وقاله قتادة. ” انتهى، من “تفسير ابن كثير” (3/529-530).

2-إن هذه صفات كمال مطلق، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، فلا عجب أن يتصف بها الله تعالى، بل هو أولى من اتصاف المخلوق بها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية ص 50: “والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يُستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أَوْلَى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أَوْلَى بالتنزيه عنه” انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة (2/475) : “كل كمال ثبت للمخلوق غير مستلزم للنقص، فخالقه ومعطيه إياه أحق بالاتصاف به، وكل نقص في المخلوق فالخالق أحق بالتنزه عنه كالكذب والظلم والسفه والعيب بل يجب تنزيه الرب تعالى عن النقائص والعيوب مطلقاً وإن لم يتنزه عنها بعض المخلوقين” انتهى.

 والأمر الثاني، مما يحتمله هذا السؤال: أن يقال: لمَ عبر الله عز وجل عن صفاته، بأسماء تطلق على أوصاف البشر، مع أن صفات الله جل جلاله لا تشبه صفات البشر، كما أن ذاته لا تشبه ذوات خلقه؟

فيقال في جواب ذلك:

إن الله جل جلاله قد أنزل كتابه: ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) النحل/89 ، ومن تمام رحمة الله بعباده، وعلمه بهم، وبفهومهم وعلومهم أنزل عليهم كتابه مبينا، مفصلا: ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) الأعراف/52، وقال تعالى: ( حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ) فصلت/1-4

وإذا كان الأمر كذلك، فأي فائدة تحصل للناس إذا وصف الله نفسه بصفات لا عهد لهم بشيء من معناها، ولا هم يعرفون كنهها، ولا رأوها، ولا يعلمون لها شبها ولا نظيرا؟!

إن هذا يكون كما لو أنزل عليهم كتابا بغير لسانهم الذي يعهدون، وكلمهم بكلام من عنده، وهم لا يفهمون: ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) فصلت/44

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: ” والإخبار عن الغائب: لا يُفهم إن لم يُعبَّر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويُعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميِّز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يُعلم في الشاهد؛ وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منّا فهمه بذلك الخطاب، وفسّرنا ذلك.

وأما نفس الحقيقة المخبَر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ” انتهى من “التدمرية” (97-98).

وقال أيضا: ” فإنا نعلم ذلك ابتداءً بما نشهده في الموجودات التي نشهدها، كما أن ما يثبت من الصفاة، كالحياة والعلم والقدرة والكلام وأمثال ذلك، إنما نعلمه ابتداء، بما نعلمه في الموجودات التي نعرفها، ثم إذا اخبرنا الصادق المصدوق عن الغيب الذي لا نشهده، فإنما نفهم مراده الذي أراد أن يفهمنا إياه، لِمَا بين ما أخبر به من الغيب، وبين ‌ما ‌علِمناه ‌في ‌الشاهد: ‌من ‌القدر الجامع الذي فيه نوعُ تناسب، وتشابه.

فإذا أخبرنا عما الجنة من الماء واللبن والعسل والخمر والحرير والذهب، لم نفهم ما أراد إفهامنا إن لم نعلم هذه الموجودات في الدنيا، ونعلم أن بينها وبين ما في الجنة قدرا مشتركاً، وتناسباً وتشابهاً، يقتضي أن نعلم ما أراد بخطابه، وإن كانت تلك الموجودات مخالفة لهذه من وجه آخر. كما قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء …

وإذا كان بين المخلوق والمخلوق قدرٌ فارقٌ، مع نوعٍ من إثبات القدر المشترك، الذي يقتضي التناسب والتشابه من بعض الوجوه؛ فمعلوم أن ما بين الخالق والمخلوق من المفارقة والمباينة، أعظم مما بين المخلوق والمخلوق، فهذا مما يوجب نفي مماثلة صفاته لصفات خلقه، ويوجِب أن ما بينهما من المباينة والمفارقة، أعظمُ مما بين المخلوق والمخلوق.

مع أنه لولا أن بين مسمى الموجود والموجود، والحي والحي، والعليم والعليم، والقدير والقدير، وأمثال ذلك، من المعنى المتفق المتواطئ المناسب والمتشابه، ما يوجب فهم المعنى: لم يفهمه، ولا أمكن أن يفهم أحد ما أخبر به عن الأمور الغائبة ” انتهى، من “درء تعارض العقل والنقل” (6/123-125).

وهذا الاشتراك في الأسماء: إنما هو في الذهن، لا وجود له في الخارج، فالموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، فعلم الله ليس كعلم المخلوق، وقدرته ليست كقدرته، وإن اتفقا واشتركا في المعنى الكلي العام الذي نفهمه من العلم والقدرة.

فهذا الاشتراك ضرورة لفهم الخطاب، فلو لم نعقل معنى كلياً للعلم والسمع والبصر وغيرها من الصفات، لما أمكن فهم ما وصف الله به نفسه منها، وللزم السؤال عن معانيها عند إضافتها إلى الله.

قال الغزالي رحمه الله: ” لمعرفة الله سبحانه وتعالى سبيلان: أحدهما قاصر والآخر مسدود.

أما القاصر: فهو ذكر الأسماء والصفات بطريقة التشبيه بما عَرَفناه من أنفسنا، فإنا لمّا عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين، ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز وجل، أو عرفناه بالدليل، فهمناه فهماً قاصراً، كفهم العنّين لذة الوقاع بما يوصف له من لذة السكر، بل حياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز وجل وقدرته وعلمه من حلاوة السكر، من لذة الوقاع، بل لا مناسبة بين البُعدين.

وفائدة تعريف الله عز وجل بهذه الأوصاف أيضاً: إيهامٌ وتشبيه ومشاركة في الاسم، لكن يُقْطَع التشبيه بأن يقال: ليس كمثله شيء، فهو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، كما تقول: الوقاع لذيذ كالسكر، ولكن تلك اللذة لا تشبه هذه ألبتة، ولكن تشاركها في الاسم، وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا؛ إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا: إن الله سميع، ولا الأكمه يفهم معنى قولنا: إنه بصير.

ولذلك إذا قال القائل: كيف يكون الله عز و جل عالماً بالأشياء؟ فنقول: كما تعلم أنت الأشياء. فإذا قال: فكيف يكون قادراً؟ فنقول: كما تقدر أنت. فلا يمكنه أن يفهم شيئاً إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم أولاً ما هو متصف به، ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه.

فإن كان لله عز و جل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم ولو مشاركة حلاوة السكر لذة الوقاع، لم يتصور فهمُه ألبتة” انتهى من المقصد الأسنى، ص52- 55.

وينظر أيضا: “مجموع فتاوى شيخ الإسلام” (2/67-69)، (9/295).

والحاصل:

أن الله جل جلاله أعلم بما وصف نفسه، سبحانه، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.

وما عرفنا به من الأسماء والأوصاف التي تشترك في ألفاظها، وأصل معناها في لغة العرب، مع ما يكون لخلقه، إنما ذلك لضرورة فهم الناس لما بينه الله لهم في كتابه، وإلا؛ لم يفهموا إلا ألفاظا لا يدركون معناها، وبين معاني ما وصف الله به نفسه، وما وصف به خلقه، كما بين الله جل جلاله، وخلقه!!

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android