لدي استفسار حول راويين في الصحيحين؛ وهما: سعيد المقبري وأبي إسحاق السبيعي، فقد بحثت عن ترجمتهما، ووجدت عددا من أهل العلم، يقولون: إنهما قد اختلطا، فلماذا ؟ وهل روى لهما الشيخان قبل الاختلاط أم بعد الاختلاط؟
أبوإسحاق السبيعي، وسعيد المقبري، رميا بالإختلاط، فلماذا أخرج لهما البخاري ومسلم؟
السؤال: 475765
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
أبو إسحاق السبيعي كان أحد أئمة التابعين الكوفيين في الحديث، فهو لأهل الكوفة كالزهري لأهل المدينة.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
” عمرو بن عبد الله، أبو إسحاق الهمداني السبيعي أحد الاعلام … هو كالزهري في الكثرة، غزا مرات، وكان صواما قواما، عاش خمسا وتسعين سنة مات 127″ انتهى من “الكاشف” (2 / 82).
وأهل الحديث متفقون على توثيقه.
قال النووي رحمه الله تعالى:
” وأجمعوا على توثيقه وجلالته والثناء عليه.
قال شعبة: كان أبو إسحاق السبيعى أحسن حديثا من مجاهد، والحسن، وابن سيرين. وقال أحمد بن عبد الله العجلى: هو كوفى ثقة، سمع ثمانية وثلاثين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، والشعبى أكبر منه بسنتين، ولم يسمع أبو إسحاق من علقمة بن قيس شيئا. وقال أبو حاتم: هو ثقة، ويُشَبَّه بالزُّهري في كثرة الرواية ” انتهى من “تهذيب الأسماء واللغات” (2 / 172).
وأما مسألة اختلاطه، فهي محل نظر عند أهل العلم، وهناك من نص على عدم اختلاطه، وإنما غاية ما هنالك، أنه كبِر، فضعف حفظه.
قال الترمذي رحمه الله تعالى:
” وزهير في أبي إسحاق ليس بذاك، لأن سماعه من أبي إسحاق بأخرة ، وأبو إسحاق في آخر زمانه كان قد ساء حفظه ، وسمعت أحمد بن الحسن يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير، فلا تبالي أن لا تسمع من غيرهما؛ إلا حديث أبي إسحاق ” انتهى من “العلل الكبير” (ص29).
وقال الذهبي رحمه الله تعالى:
” عمرو بن عبد الله، أبو إسحاق السبيعي، من أئمة التابعين بالكوفة وأثباتهم، إلا أنه شاخ ونسي، ولم يختلط.
وقد سمع منه سفيان بن عيينة، وقد تغير قليلا ” انتهى من “ميزان الاعتدال” (3/275).
ثانيا:
سعيد بن أبي سعيد المقبري، متفق على توثيقه.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
” سعيد بن أبي سعيد كيسان؛ الإمام المحدث الثقة أبو سعيد المقبري المدني مولى بني ليث … قال أحمد وابن معين ليس به بأس. وقال علي وابن سعد وأبو زرعة وجماعة: ثقة … ” انتهى من “تذكرة الحفاظ ” (1/88).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” سعيد بن أبي سعيد المقبري أبو سعيد المدني صاحب أبي هريرة، مجمع على ثقته … ” انتهى من “هدي الساري” (ص405).
وأما ما قيل من اختلاطه، فليس بثابت، فهو من قول الواقدي، وهو ليس بحجة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” وزعم الواقدي أنه اختلط قبل موته بأربع سنين، وتبعه ابن سعد ويعقوب ابن شيبة، وابن حبان، وأنكر ذلك غيرهم، وقال الساجي عن يحيى بن معين: أثبت الناس فيه ابن أبي ذئب، وقال ابن خراش: أثبت الناس فيه الليث بن سعد.
قلت: أكثر ما أخرج له البخاري من حديث هذين عنه، وأخرج أيضا من حديث مالك وإسماعيل بن أمية وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهم من الكبار، وروى له الباقون، لكن لم يخرجوا من حديث شعبة عنه شيئا ” انتهى من “هدي الساري” (ص405).
فالراجح أن حاله كحال أبي إسحاق السبيعي، أي أنه بسبب كبره لحقه بعض الضعف في حفظه في آخر عمره، وقيل إنه لم يحدِّث لمّا لحقه هذا الوهن.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
” سعيد بن أبي سعيد المقبري.
صاحب أبي هريرة وابن صاحبه.
ثقة حجة، شاخ، ووقع في الهرم، ولم يختلط.
وروى أن شعبة قال: حدثَنا بعد ما كبر…
وقال ابن سعد: ثقة، لكنه اختلط قبل موته بأربع سنين.
ومات سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل: سنة ثلاث وعشرين.
قلت: ما أحسب أن أحدا أخذ عنه في الاختلاط، فإن ابن عيينة أتاه، فرأى لعابه يسيل، فلم يحمل عنه.
وحدث عنه مالك، والليث، ويقال: أثبت الناس فيه الليث ” انتهى من “ميزان الاعتدال” (2 / 139).
وقال رحمه الله تعالى:
” وقال ابن سعد: ثقة لكنه اختلط قبل موته بأربع سنين.
قلت: ما أحسبه روى شيئا في مدة اختلاطه، وكذلك لا يوجد له شيء منكر ” انتهى من “سير أعلام النبلاء” (5 / 217).
ثالثا:
الرواة الذين تكلم فيهم بعض أهل العلم، قد يخرج لبعضهم البخاري ومسلم:
إما لأنه ترجّح عندهما ثقة الراوي، وعدم صحة ما رمي به من الجرح والضعف.
أو لأن ضعفه نسبي، وليس مطلقا في جميع الأحوال؛ كمن ضُعِّف بالاختلاط عند كبره، فيخرجان له من المرويات ما ثبت أنه حدث بها قبل اختلاطه، ويعرضان عما حدث به وقت اختلاطه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” عمرو بن عبد الله، بن أبي إسحاق، السبيعي، أحد الأعلام الأثبات قبل اختلاطه، ولم أر في البخاري من الرواية عنه إلا عن القدماء من أصحابه، كالثوري، وشعبة، لا عن المتأخرين، كابن عيينة وغيره، واحتج به الجماعة ” انتهى من “هدي الساري” (ص431).
وقال مؤلفو “تحرير تقريب التهذيب” (3 / 99):
• قوله: “اختلط بأخرة” ليس بجيد، فإنه لم يختلط، لكنه شاخ ونسي – كما قال الإمام الذهبي -، وسمع منه سفيان بن عيينة في حال شيخوخته، فروايته عنه غير جيدة، ولذلك لم يخرج الشيخان من طريقه شيئًا عنه ” انتهى.
وقد ترجع رواية الشيخين عن مثل هؤلاء إلى أنهما ينتقيان من مرويات الراوي ما قد علما صحته وخلوه من الخطأ والوهم، وذلك بمقارنة وعرض روايته على روايات غيره من الثقات، فيعلمان أنه أصاب في روايته، وهذه طريقة أئمة الحديث في التعامل مع مرويات الثقات والمتكلم فيهم.
قال ابن حبان رحمه الله تعالى:
” وأما المختلطون في أواخر أعمارهم مثل الجُرَيْري وسعيد بن أبي عروبة وأشباههما، فإنا نروي عنهم في كتابنا هذا، ونحتج بما رووا؛ إلا إنا لا نعتمد من حديثهم إلا ما روى عنهم الثقات من القدماء الذين نعلم أنهم سمعوا منهم قبل اختلاطهم، وما وافقوا الثقات في الروايات التي لا نشك في صحتها وثبوتها من جهة أخرى؛ لأن حكمهم، وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم، وحُمِل عنهم في اختلاطهم بعد تقدم عدالتهم: حكم الثقة إذا أخطأ؛ أن الواجب ترك خطئه إذا عُلم، والاحتجاج بما نعلم أنه لم يخطئ فيه، وكذلك حكم هؤلاء: الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات، وما انفردوا، مما روى عنهم القدماء من الثقات الذين كان سماعهم منهم قبل الاختلاط سواء ” انتهى من “الإحسان” (1 / 161).
وقال ابن القيم أثناء كلامه عن راو رمي بالضعف، فقال رحمه الله تعالى:
” ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يَطَّرِح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه؛ فيغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث ذلك الثقة، ومن ضعَّف جميع حديث ذلك السيئ الحفظ. فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية: طريقة ابن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن. والله المستعان ” انتهى من “زاد المعاد” (1 / 444).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
” … أن الشيخين إنما يخرجان لمن فيه كلام في مواضع معروفة:
أحدها: أن يؤدّي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام لا يضرُّه في روايته البتة، كما أخرج البخاري لعكرمة.
الثاني: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يحتج به مقرونًا، أو حيث تابعه غيره ونحو ذلك.
ثالثها: أن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه، أو برواية فلان عنه، أو بما يُسمع منه من غير كتابه، أو بما سُمع منه بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه عنعنة وهو مدلس، ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس.
فيُخرجان للرجل حيث يصلح، ولا يُخرجان له حيث لا يصلح ” انتهى من “التنكيل – ضمن آثار المعلمي” (10 / 765 — 766).
الخلاصة:
أبو إسحاق السبيعي وسعيد المقبري، هما من ثقات الرواة، وما رميا به من الاختلاط، لم تقم حجة بصحته، وغاية ما هنالك أنهما كبرا فلحقهما بعض الضعف في حفظهما في آخر عمرهما.
وإخراج البخاري ومسلم لأحاديثهما في صحيحيهما، راجع إلى أحد أمرين:
إما لأنه قد ترجح عندهما عدم صحة ما رميا به من الاختلاط، وإما لأن صنيعهما في الصحيحين قائم على الانتقاء من مرويات الرواة، ما قد علما خلوه من الوهم والخطأ.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب