هل صحيح أنَّ عمر منع الحديث في خلافته، كلما أرسلَ جماعة إلى مدينة منعهم من رواية الحديث؟
هل منع عمر رضي الله عنه الصحابة من رواية الحديث؟
السؤال: 476164
ملخص الجواب
لم يثبت أن عمر رضي الله عنه نهى الصحابة عن رواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل المتواتر من سيرته رضي الله عنه، هو أنه كانت له مساهمة مهمة في العناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. والثابت عنه رضي الله عنه هو أمره بالإقلال من الرواية صيانة للسنة من دخول الوهم فيها، ولأن الإكثار منها – لغير حاجة العمل – قد يشغل عن الاهتمام بالقرآن الكريم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
لم يثبت أن عمر رضي الله عنه منع من رواية الحديث، بل المتواتر عنه والمقطوع بصحته من سيرته رضي الله عنه، هو أنه كان يعتني بسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعلّما وتعليما.
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
” وفي “رسالة الشافعي” (ص 422 ــ 445)، و “إعلام الموقعين” (1: 61 ــ 74، 98)، و “أحكام ابن حزم” (2: 137 ــ 141)، وكتاب “العلم” لابن عبد البر (2: 121 ــ 124)، وغيرها: آثار كثيرة تبين تمسّك عمر بالأحاديث والسنن، ورجوعه إليها، وعنايته بها، وحضّه على تعلّمها وتعليمها، وأمره باتباعها، فمن أحبَّ فليراجعها. ومعنى ذلك في الجملة متواتر ” انتهى. “الأنوار الكاشفة – ضمن آثار المعلمي” (12 / 77).
ومن مظاهر اهتمامه رضي الله عنه بالأحاديث النبوية:
المظهر الأول:
مشاركته لسائر الصحابة في نقل الأحاديث النبوية للناس، فحدّثهم بجملة مما سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بلغت رواياته في المصنفات الحديثية أكثر من خمسمائة حديث.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
” أصحاب المئين وشيء:
عبد الله بن مسعود: ثمانمائة حديث وثمانية وأربعون حديثا.
عبد الله بن عمرو بن العاصي: سبعمائة حديث.
عمر بن الخطاب: خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا … ” انتهى من “جوامع السيرة” (ص276).
وقال الشيخ محمد ابن علي الأثيوبي رحمه الله تعالى:
” له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر ” انتهى من “ذخيرة العقبى” (2 / 203).
المظهر الثاني:
أخذه بالأحاديث التي يسمعها من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وعمله بها.
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
” فإن قال قائل فادلُلْني على أن عمر عمل شيئا ، ثم صار إلى غيره بخبر عن رسول الله…[ ثم ذكر جملة من الحوادث ]… ” انتهى. “الرسالة” (ص 425 — 430).
بل إن عمر رضي الله عنه كانت له عادة عامة في ذلك، أن يتبادل الحضور إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، والسماع منه، مع جار له، ثم يحدث كل منهما صاحبه بما سمع في نوبته.
وقد ترجم على ذلك الإمام البخاري، رحمه الله في “صحيحه”: ” بَابُ التَّنَاوُبِ فِي العِلْمِ “.
ثم روى فيه ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ .. ) وذكر الحديث.
المظهر الثالث:
حثه على الاعتناء بالأحاديث الصحيحة.
روى البخاري (202) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ( أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ )، وَأَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ، إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ.
وروى ابن أبي شيبة في “المصنف” (17 / 245)، قال: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: ( تَعَلَّمُوا اللَّحْنَ، وَالْفَرَائِضَ، وَالسُّنَّةَ، كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ )، وصححه محققو المصنف.
ثانيا:
وإنما الذي ثبت عنه رضي الله عنه هو الأمر بالإقلال من التحديث، وعدم الإكثار من الرواية، إلى حد يشغل عن كتاب الله.
روى ابن ماجه (28)، قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: “بَعَثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الْكُوفَةِ وَشَيَّعَنَا، فَمَشَى مَعَنَا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ صِرَارٌ، فَقَالَ: ( أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ قَالَ: قُلْنَا: لِحَقِّ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِحَقِّ الْأَنْصَارِ.
قَالَ: لَكِنِّي مَشَيْتُ مَعَكُمْ لِحَدِيثٍ أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ، فأردْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لِمَمْشَايَ مَعَكُمْ، إِنَّكُمْ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ لِلْقُرْآنِ فِي صُدُورِهِمْ هَزِيزٌ كَهَزِيزِ الْمِرْجَلِ، فَإِذَا رَأَوْكُمْ مَدُّوا إِلَيْكُمْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَنَا شَرِيكُكُمْ “.
قال محققو السنن: ” أثر صحيح، مجالد -وهو ابن سعيد- وإن كان ضعيفًا، قد توبع، وباقي رجاله ثقات ” انتهى.
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر، حيث قال:
” وقد أخرج سعيد بن منصور بسند آخر صحيح عن الشعبي، عن قرظة بن كعب، عن عمر قال: ( أقلوا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم ) ” انتهى. “فتح الباري” (13 / 244).
وقد حمل بعض أهل العلم هذا الخبر على الإقلال من الأحاديث التي ليست متعلقة بالسنن والفرائض.
قال الدارمي بعد اخراجه لهذا الحديث في “مسنده” رقم (287 – 288):
” معناه عندي الحديث عن أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس السنن والفرائض ” انتهى.
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
” لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدَّث بعدد من الأحاديث، أو سأل عنها، وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين: الأول: استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور الحاجة. الثاني: ما صرَّح به من إيثار أن لا يشغل الناس ــ يعني بسماع الأحاديث دون حضور حاجة ــ عن القرآن.
وجاء عنه كما يأتي: ( أقلُّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به ).
و(العمل) في كلامه مطلق، يعمّ العبادات والمعاملات والآداب ” انتهى. “الأنوار الكاشفة – ضمن آثار المعلمي” (12 / 61).
وقد وجّه أهل العلم هذا الأمر بالإقلال إلى أحد سببين:
السبب الأول:
لطلب التثبت في الحديث، لأن الإكثار منه مظنة لحصول الوهم والخطأ، كما أن الإقلال منه يعطي هيبة للحديث، فلا يتجرأ غير الصحابة عليه.
ولهذا أخرج ابن ماجه هذا الحديث تحت باب: ” بَابُ التَّوَقِّي فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “.
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
” نهيه عن الإكثار وأمره بإقلال الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوفا أن يكون مع الإكثار أن يحدثوا بما لم يتقنوا حفظه ولم يعوه؛ لأن ضبط من قلت روايته أكثر من ضبط المستكثر، وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإكثار؛ فلهذا أمرهم عمر بالإقلال من الرواية، ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإقلال منها والإكثار … ” انتهى من “جامع بيان العلم وفضله” (2 / 1005).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
” وفي تشديد عمر أيضا على الصحابة وفي روايتهم، حفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترهيب لمن لم يكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها، لأنه إذا رأى الصحابي المقبول القول، المشهور بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، قد تُشُدِّد عليه في روايته، كان هو أجدر أن يكون للرواية أهيب، ولما يلقي الشيطان في النفس من تحسين الكذب أرهب…
… سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، قال: حدثنا أبو يزيد القراطيسي، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني ربيعة بن زيد، عن عبد الله بن عامر اليحصبي، قال: سمعت معاوية، على المنبر، بدمشق، يقول: ( أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَأَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا حَدِيثًا كَانَ يُذْكَرُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يُخِيفُ النَّاسَ فِي اللَّهِ عز وجل ).
وإلى المعنى الذي ذكرناه ذهب عمر رضي الله عنه في طلبه من أبي موسى الأشعري أن يحضر معه رجلا يشهد أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث السلام… ” انتهى. “شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي” (ص91).
السبب الثاني:
أن الإكثار من الحديث يشغل الناس عن الاهتمام بالقرآن الكريم، كما هو ظاهر من نص الخبر.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
” احتج بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا: ( أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وبما ذكرنا في هذا الباب من الأحاديث وغيرها، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تَوَصُّلَ إلى مراد كتاب الله عز وجل إلا بها، والطعن على أهلها.
ولا حجة في هذا الحديث ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه، قد ذكرها أهل العلم منها:
أن وجه قول عمر هذا إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن، فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه، إذ هو الأصل لكل علم، هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك…
وقال غيره: إن عمر رضي الله عنه إنما نهى من الحديث عما لا يفيد حكما ولا يكون سنة… ” انتهى. “جامع بيان العلم وفضله” (2 / 1003).
وقال الشيخ محمد ابن علي الأثيوبي رحمه الله تعالى:
” ( فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) أي لا تكثروا رواية أحاديثه صلى الله عليه وسلم لهم نظرا إلى كثرة طلبهم، وشوقهم في الأخذ عنكم؛ تعظيما لأمر الرواية عنه صلى الله عليه وسلم، أو لئلا يُشغلوا بذلك عن قراءة القرآن، والاحتمال الأول هو الذي فهمه المصنّف رحمه الله تعالى، حيث أورد الحديث في “باب التوقّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”، والاحتمال الثاني هو الذي يؤيّده السياق، حيث إن عمر رضي الله عنه قال لهم: “إنكم تَقْدَمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز الخ”، فإنه يدلّ على أن أمره لهم بالإقلال من الرواية لئلا يشغلهم كثرة الحديث عن قراءة القرآن ” انتهى. “مشارق الأنوار” (1 / 397).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب