قال الباقلاني في \”التمهيد\” ص٣٨٥-٣٨٦: \”فإِن قَالَ قَائِل فَهَل يَصح على قَوْلكُم هَذَا أَن يؤلم الله سُبْحَانَهُ سَائِر النَّبِيين وينعم سَائِر الْكَفَرَة والعاصين من جِهَة الْعقل قبل وُرُود السّمع؟
قيل لَهُ: أجل لَهُ ذَلِك.
وَلَو فعله لَكَانَ جَائِزا مِنْهُ غير مستنكر من فعله.
فَإِن قَالَ: فَمَا الَّذِي يؤمنكم من تعذيبه الْمُؤمنِينَ وتنعيمه الْكَافرين؟
قيل لَهُ: يؤمننا من ذَلِك تَوْقِيف النَّبِي وَإِجْمَاع الْمُسلمين على أَنه لَا يفعل ذَلِك، وعَلى أَنه قد أخبر أَخْبَارًا علمُوا قَصده بِهِ ضَرُورَة إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون، وَلَوْلَا هَذَا التَّوْقِيف وَالْخَبَر لأجزنا مَا سَأَلت عَنهُ\”.
أريد أن أسأل هل ما قال الباقلاني موافق لمنهج السلف الصالح؟
هل يجوز عقلا أن يعذب الله سائر النبيين وينعّم سائر الكفرة والعاصين؟
السؤال: 506432
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لا يجوز عقلا، ولا شرعا، أن يؤلم الله سائر النبيين وينعّم سائر الكافرين.
أما عقلا؛ فلأنه قبيح والله منزه عن القبيح.
وأما شرعا، فللنصوص التي أشار إليها الباقلاني، كقوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ هود/ 117، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً طه/ 112، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً يونس/ 44، وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فصلت/ 46
وقال سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌالأنعام/ 54
وقال سبحانه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَالقلم/35- 36.
وقال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ الجاثية/21.
ومبنى هذا التجويز العقلي الذي ذكره الباقلاني وغيره: هو نفي التحسين والتقبيح العقليين، فالعقل عندهم لا يدرك حسن الشيء ولا قبحه قبل ورود الشرع، ونفي الحكمة والتعليل في أفعاله تعالى، وأن الظلم هو التصرف في ملك الغير، والله سبحانه هو المالك لكل شيء.
والصواب: أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها قبل وردود الشرع، فيدرك قبح الكذب والظلم ونحو ذلك، وأنه أفعاله سبحانه معللة فهو يفعل لحكمة، وأن والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، لا التصرف في ملك الغير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في “منهاج السنة” (3/ 86): “فصل قال الرافضي: “ومنها تجويز أن يعذب الله سيد المرسلين على طاعته، ويثيب إبليس على معصيته، لأنه يفعل لا لغرض…”.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا الذي قاله باطل باتفاق المسلمين، فلم يقل أحد منهم: إن الله قد يعذب أنبياءه، ولا أنه قد يقع منه عذاب أنبيائه؛ بل هم متفقون على أنه يثيبهم لا محالة، لا يقع منه غير ذلك؛ لأنه وعد بذلك، وأخبر به، وهو صادق الميعاد، وعلم ذلك بالضرورة.
ثم من متكلمة أهل السنة المثبتين للقدر من يقول: إنما علم ذلك بمجرد خبره الصادق، وهي الدلالة السمعية المجردة.-[وهذا كقول الباقلاني المذكور]-.
ومنهم من يقول: بل قد يعلم ذلك بغير الخبر، ويعلم بأدلة عقلية، وإن كان الشارع قد نبه عليها وأرشد إليها. كما إذا عُلمت حكمته ورحمته وعدله؛ عُلم أن ذلك يستلزم إكرام من هو متصف بالصفات المناسبة لذلك.
قالت: خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تعلم أنه نبي: والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
وقد قال الله تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} [سورة الجاثية: 21]؛ وهذا استفهام إنكار؛ يقتضي الإنكار على من يحسب ذلك ويظنه، وإنما ينكر على من ظن أو حسب ما هو خطأ باطل يُعلم بطلانه، لا من ظن ظنا ما ليس بخطأ ولا باطل!! فعُلم أن التسوية بين أهل الطاعة وبين أهل المعصية: مما يُعلم بطلانه، وأن ذلك من الحكم السيئ الذي ينزه الله عنه.
ومثله قوله تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [سورة ص: 28] ، وقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون} [سورة القلم: 35، 36].
وفي الجملة: التسوية بين الأبرار والفجار، والمحسنين والظالمين، وأهل الطاعة وأهل المعصية: حكم باطل، يجب تنزيه الله عنه، فإنه ينافي عدله، وحكمته.
وهو سبحانه كما ينكر التسوية بين المختلفات، فهو يسوي بين المتماثلات، كقوله سبحانه وتعالى: {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر} [سورة القمر: 43] ، وقوله: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم} الآية [سورة آل عمران: 11] ، وقوله: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [سورة يوسف: 111] ، وقوله: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [سورة الحشر: 2] ، وقوله: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم} [سورة النور: 43] ، وقوله: {وتلك الأمثال نضربها للناس} [سورة العنكبوت: 43] .
الوجه الثاني: أن قوله: ” ومنها تجويز تعذيب الأنبياء وإثابة الشياطين “: إن أراد به أنهم يقولون إن الله قادر على ذلك؛ فهو لا ينازع في القدرة.
وإن أراد: أنا هل نشك: هل يفعله أو لا يفعله؟ فمعلوم أنا لا نشك في ذلك، بل نعلم انتفاءه، ….
وإن أراد: أن من قال: إنه يفعل لا لحكمة، يلزمه تجويز وقوع ذلك منه، وإمكان وقوعه منه، وأنه لو فعل ذلك لم يكن ظالما= فلا ريب أن هذا قول هؤلاء-[أي الأشاعرة ونحوهم من المتكلمين] – ، وهم يصرحون بذلك!!
لكن أكثر أهل السنة لا يقولون بذلك، بل عندهم أن الله منزه عن ذلك، ومقدَّس عنه…” انتهى.
وقال السفاريني في “لوامع الأنوار” (1/ 320):
ثم أشار في النظم إلى مسألة عظيمة، مبنية على أن أفعال الباري لا تعلل، فقال:
وجاز للمولى يعذب الورى … من غير ما ذنب ولا جرم جرى
فكل ما منه – تعالى – يجمُل … لأنه عن فعله لا يسأل” انتهى.
إلى أن قال: ” وتقدم هذا في شرح قوله: لكنه لا يخلق الخلق سدى، فليراجع.
فإن الإمام المحقق ابن القيم، كشيخ الإسلام وجمع: لم يرتضوا بهذا، ونقبوا عليه، وبرهنوا، وأثبتوا الحكمة والعلة في أفعاله – تعالى – على الوجه الذي شرحناه فيما تقدم.
ومذهب الأشاعرة أن أفعال الباري – تعالى – ليس معللة بالأغراض والمصالح.
والغرض: ما لأجله يصدر الفعل عن الفاعل.
ويقولون: إن الله تعالى يفعل هذه الحوادث عند الأسباب المقارنة لها، وإن ذلك عادة محضة، ويجعلون اللام في أفعاله لام العاقبة، لا لام التعليل، كما هو مقرر محرر.
ومذهب الماتريدية امتناع خلو فعله عن المصلحة.
قال السعد: والحق أن تعليل بعض الأفعال، لا سيما الأحكام الشرعية، بالحكم والمصالح: ظاهر.
ومذهب سلف الأئمة، على ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح الأصفهانية، وأنه القول الوسط الجامع للحق الموافق لصحيح المنقول، وصريح المعقول، وعليه أشهر الطوائف انتسابا إلى السنة – هم مثبتة القدر الذين يُقرون بما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الله – تعالى – خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء بقدرته ومشيئته، ويثبتون لله – تعالى – حكمة يفعل لأجلها قائمة به – تعالى – لا منفصلة عنه، ويثبتون له رحمة ومحبة ورضا وسخطا، ويثبتون للحوادث أسبابا تقتضي التخصيص، ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب، والموانع= قال:
وهذا هو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، وهو الذي يجمع ما في الأقوال المختلفة من الصواب، ويجتنب ما فيها من الخطأ.
قال: فهذه طريقة سلف الأمة وأئمة الدين، وهي التي يدل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف، فإن الله – تعالى – بين في كتابه الحق وأدلته، بما ضربه فيه من الأمثال وسنه من البراهين العقلية. انتهى” انتهى من لوامع الأنوار للسفاريني.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في التعليق على أبيات السفاريني:
“… ثم، هذا الفعل غير جميل، والله سبحانه وتعالى لا يفعل إلا الجميل، وفي الحديث القدسي الصحيح أن الله تعالى قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي).
ثم إن تعذيب المطيع القائم بأمر الله ليلاً ونهاراً حتى مات، لا أحد يشك في أنه ظلم، وأنه غير جميل.
إذاً سقط التعليل الأول في قوله: (فكل ما منه تعالى يجمل)، فإن عقوبة المطيع ليست جميلة، فلا يصدق عليها هذا التعليل” انتهى من شرح الشيخ ابن عثيمين على “العقيدة السفارينية” (1/ 339).
وينظر: جواب السؤال رقم: (413463)، (430112)
والحاصل:
أن إيلام سائر النبيين أو تعذيب جميع المطيعين، غير جائز عقلا؛ لأنه قبيح، والله منزه عن القبيح.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة