حديث: (صِنْفَان مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ. لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا).
وهناك عدة نقاط تقدح في مصداقية هذا الحديث:
أولا:
هذا الموقف أي رؤية الجنة والنار كان رواية من الرسول عليه السلام عما حدث له أثناء حادث الإسراء والمعراج، فكيف لا يذكره البخاري ولو مرة واحدة؟ وهو الكتاب الذي يطلق معظمهم عليه بأنه أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، بالرغم من أهمية هذا الحدث أي \”الإسراء والمعراج\” في التاريخ الإسلامي؟ فهل نسيه البخاري أم نسيه الرواة الذين تم أخذ حادث المعراج من روايتهم؟
فالحديث أساسا تم ذكره في صحيح مسلم، ولم يرد ذكر هذا الموقف أثناء حادث المعراج ولو مرة واحدة في \”صحيح البخاري\”.
ثانيا: تم رواية هذا الحديث في \”صحيح مسلم\” عن أبي هريرة وهو الذي شكك كثيرون في الأحاديث المروية عنه.
الرد على التشكيك في صحة حديث الكاسيات العاريات
السؤال: 520105
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
روى الإمام مسلم في "الصحيح" (2128) عَنْ سُهَيْلٍ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا).
وهذا الحديث قد رواه جمع من الأئمة كالإمام أحمد في "المسند" (14 / 300)، وابن حبان "الاحسان" (16/500) وغيرهم.
وتتابع أهل العلم وأئمتهم على الاحتجاج به، وعدم انتقاده أو تضعيفه.
وعدّ من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.
فرواه أبو نعيم الأصبهاني الحديث في "دلائل النبوة" (ص547)، تحت فصل: " ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الغيوب، فتحقق ذلك على ما أخبر به، في حياته وبعد موته " انتهى.
والبيهقي في "دلائل النبوة" (6 / 532)، ضمن باب: " ما جاء في إخباره بقوم في أيديهم مثل أذناب البقر يضربون بها النّاس، ونساء كاسيات عاريات, فكان كما أخبر " انتهى.
وغاية ما يمكن أن ينتقد به هذا الحديث، هو أنه ورد موقوفا من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، عند الإمام مالك في "الموطأ" كما في "موطأ مالك – رواية أبي مصعب الزهري" (2/ 84)، و "موطأ مالك – رواية يحيى" (2/ 913):
مَالِكٌ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: " نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ".
وعلى الوقف وردت أكثر روايات الموطأ، قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" هكذا روى هذا الحديث يحيى موقوفا، من قول أبي هريرةَ، وكذلك هو في "الموطّأ" عند جماعة رواته، إلّا ابن نافع، فإنّه رواه عن مالك بإسناده هذا، مرفوعا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم…
وقد روي عن ابن بكير، عن مالك مسندا، وفي "الموطّأ" عن مالك لابن بكير غير ذلك " انتهى. "التمهيد" (8 / 300).
ونص الدارقطني على ترجيح الوقف في رواية مالك، حيث قال رحمه الله تعالى:
" يرويه مالك، واخْتُلِف عنه؛ فرواه عبد اللّه بن نافع، عن مالك، عن مسلم بن أبي مريم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ووقفه أصحاب "الموطّأ"، وهو المحفوظ " انتهى. "علل الدارقطني" (10 / 150).
لكن وقفه من طريق الإمام مالك؛ لا يعلّ به الرواية المرفوعة عند الإمام مسلم؛ لأن شيخ الإمام مالك في هذا الخبر، وهو مسلم بن أبي مريم، وُصِف بأنه ربما أوقف الحديث المرفوع هيبة.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" أخبرنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا علي بن زنجة، أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: كان مالك يثني على مسلم بن أبي مريم، وقال: كان لا يكاد يرفع حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى. "الجرح والتعديل" (8 / 196).
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" مالك، عن مسلم بن أبي مريم وهو مدنيّ ثقة.
روى عنه مالك، وابن عيينة، ووهيب بن خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ.
وكان مالك يثني عليه، ويقول: كان رجلا صالحا، وكان يهاب أن يرفع الأحاديث.
لمالك عنه من حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم في "الموطّأ" ثلاثة أحاديث، أحدها لم يختلف الرّواة عن مالك في رفعه، والاثنان جمهور رواته على توقيفهما: يحيى بن يحيى وغيره، ورفع ابن وهب أحدهما، ورفع ابن نافع الآخر، وهما مرفوعان من غير رواية مالك من وجوه صحاح كلّها " انتهى. "التمهيد" (8/ 291).
وكذا الإمام مالك ربما احتاط في سوق الأسانيد.
خاصة وأنه في أمر لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما سبيله الوحي.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" ومعلوم أنّ هذا لا يمكن أن يكون من رأي أبي هريرة، لأنّ مثل هذا لا يدرك بالرّأي، ومحال أن يقول أبو هريرةَ من رأيه: لا يدخلن الجنّة، ويوجد ريح الجنّة من مسيرة كذا. ومثل هذا لا يسلّم رأيا، وإنّما يكون توقيفا، ممّن لا يدفع عن علم الغيب صلى الله عليه وسلم " انتهى. "التمهيد" (8 / 300).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قال أبو عمرو الداني: قد يحكى الصحابي رضي الله عنه قولا يوقفه، فيخرجه أهل الحديث في المسند، لامتناع أن يكون الصحابي رضي الله عنه قاله إلا بتوفيق. كما روى أبو صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يجدن عرف الجنة … " الحديث. لأن مثل هذا لا يقال: بالرأي، فيكون من جملة المسند " انتهى. "النكت على كتاب ابن الصلاح" (2 / 531).
ولم نقف على من انتقد الإمام مسلم في إدخاله لهذا الحديث المرفوع بعينه في الصحيح، والواجب على المسلم أن يتبع سبيل المسلمين ولا يخالف جماعتهم بمجرد شبهات.
ثانيا:
لم يقل أحد من الأئمة أن عدم إخراج البخاري رحمه الله تعالى لحديث في "الصحيح" يعد دليلا على ضعف هذا الحديث، بل هذه طريقة أهل البدع والأهواء في الجدال، حيث إذا استدل عليهم بحديث صحيح ليس في "صحيح البخاري" ولا في "صحيح مسلم"، قالوا هو ضعيف لو كان صحيحا لرواه البخاري، وإذا استدل عليهم بحديث في "صحيح البخاري"، قالوا البخاري ليس بمعصوم.
وقد كان من حجج بعض أئمة الحديث ونقاده الكبار في اعتراضه على تصنيف الإمام مسلم لـكتابه الصحيح، أنه رأى أن هذا يشجع أهل البدع على تضعيف الأحاديث الصحيحة التي لم ترد فيه.
حيث قال أبو زرعة رحمه الله تعالى:
" … ويُطَرِّق لأهل البدع علينا، فيجدون السبيل بأن يقولوا لحديث إذا احتج عليهم به: ليس هذا في " كتاب الصحيح " … " انتهى من "سؤالات البرذعي لأبي زرعة الرازي" (ص376).
بل الإمام البخاري نفسه لم يقل بأنه جمع كل الأحاديث الصحيحة في كتابه، بل قد ورد عنه أنه ترك جملة من الأحاديث الصحيحة خشية الاطالة.
قال ابن عدي رحمه الله تعالى:
" سَمِعت الْحسن بن الْحُسَيْن الْبَزَّاز يَقُول: سَمِعت إِبْرَاهِيم بن معقل يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ يَقُول: مَا أدخلت فِي هَذَا الْكتاب يَعْنِي جَامعه إِلَّا مَا صَحَّ، وَتركت من الصِّحَاح كي لَا يطول الكتاب " انتهى. "أسامي من روى عنهم البخاري في الصحيح" (ص62).
ولهذا اسم مصنفه المشهور: " الجامع الصّحيح المسند المُخْتَصر … ".
والبخاري نفسه قد صحح جملة من الأحاديث، ولم يدخلها في "الجامع الصحيح".
وليس في الحديث أنه (رأى) حتى يقال: إن ذلك كان في (المعراج)، وليس فيه ما يدل على ارتباطه بهذه الواقعة، وليس كل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب، كان في "المعراج".
بل في الحديث أنه (لم ير). وهذا يدلك على أن الناقد للحديث لم يحسن حتى قراءته، فضلا عن تسقط كلمة، يشبه بها على من لا علم عنده، وإنما هو اتباع الظن والهوى الذي يهوي بصاحبه.
ثالثا:
أبو هريرة رضي الله عنه هو راوية الإسلام، وعلماء الأمة وأئمتها من عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا، مجمعون على صدقه وثقته وفضله ونيله لشرف الصحبة، ولم يشكك أحد منهم في مروياته.
فهو كما قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى:
" أبو هريرة الإمام، الفقيه، المجتهد، الحافظ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة الدّوسيّ، اليمانيّ، سيّد الحفّاظ الأثبات…
حمل عن: النّبيّ صلى الله عليه وسلم علما كثيرا، طيّبا، مباركا فيه، لم يلحق في كثرته، وعن: أُبَيٍ، وأبي بكر، وعمر، وأسامة، وعائشة، والفضل، وبصرة بن أبي بصرة، وكعب الحبر.
حدّث عنه: خلق كثير من الصّحابة والتّابعين.
فقيل: بلغ عدد أصحابه ثمان مائة " انتهى. "سير أعلام النبلاء" (2 / 578 – 579).
وقد تتابع أئمة العلم والحديث على الاستدلال بأحاديثه وذكرها في مصنفاتهم.
وإنما التشكيك فيه ورد عن أئمة الضلال من المعتزلة، والشيعة الرافضة، وبعض المستشرقين الذين يعادون الإسلام.
قال الشيخ الدكتور محمد عجاج خطيب رحمه الله تعالى:
" … بعض الباحثين لم يسرّهم أن يروا أبا هريرة في هذه المكانة السامية، والمنزلة الرفيعة، فدفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى أن يصوّروه صورة تخالف الحقيقة التي عرفناها …
هكذا أراد أن يصوّره بعض أهل الأهواء، كالنظّام، والمريسي، والبلخي، وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال (جولدتسيهر) و (شبرنجر).
وأغرب من هذا أن يطعن فيه وفي السنّة بعض من ينسب إلى العلم!! فقد عثرت أثناء بحثي على كتاب تحت عنوان " أبو هريرة " ألّفه عبد الحسين شرف الدين العاملي، وهو إمامي [شيعي رافضي]، والإمامية يتّخذون أبا هريرة هدفا لكي يوهّنوا أحاديث أهل السنّة ويرفضوها، ويروّجوا أخبارهم، وقد لفّ لفّهم من كان لهم تابعا مجرّبا على تبعيّته " انتهى. "أبو هريرة راوية الإسلام" (ص159).
والخلاصة:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه حديث تتابع أئمة الحديث على تصحيحه والاستدلال به، ولم يرد أن أحدا منهم قد ضعفه.
وعدم ذكر البخاري رحمه الله تعالى له في "الجامع الصحيح" ليس دليلا على ضعفه، فالإمام البخاري لم يقصد جمع كل الصحيح في مصنفه.
وكونه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ليس علة، فأبو هريرة إمام الرواة وسيد الحفاظ الثقات الأثبات باتفاق أئمة علماء الأمة، وإنما يشكك فيه أئمة الضلال من المعتزلة والشيعة الرافضة والمستشرقين من اليهود والنصارى، فلينظر الإنسان لنفسه مع أي طائفتين يكون!
نسأل الله الكريم لنا ولكم الهداية إلى الحق والثبات عليه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب