0 / 0
26/رجب/1446 الموافق 26/يناير/2025

ما الحكمة من اختلاف تحدي الكفار، أن يأتوا بمثل القرآن، أو سورة، أو عشر سور؟

السؤال: 525509

في الآية 38 من سورة يونس، يأمر الله تعالى النبي بتحدي الكفار أن يأتوا بسورة واحدة، لكن في الآية 13 من سورة هود، يأمر الله تعالى بتحدي الكفار أن يأتوا بعشر سور، اشرح سبب هذا الاختلاف، وهل هناك أيّ حديث أو سجّل تاريخي يشير إلى أن التحدي بإتيان عشر سور كان أولاً، ثم تغيَّر إلى سورة واحدة، أم هناك تفسير آخر لهذا الاختلاف؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

آيات التحدي هذه وردت حسب ترتيب المصحف:

الآية الأولى: في سورة البقرة.

في قوله تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) البقرة (23).

الآية الثانية: في سورة يونس.

في قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يونس (38).

الآية الثالثة: في سورة هود.

في قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) هود (13).

الآية الرابعة: في سورة الإسراء.

في قوله تعالى: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء (88).

الآية الخامسة: في سورة الطور.

في قوله تعالى: ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) الطور (34).

ثانيا:

من المعلوم أن ترتيب سور المصحف ليست على تاريخ النزول، فلذا تنوعت آراء أهل العلم في وجه الحكمة من التحدي مرة بعشر سور ومرة بسورة واحدة.

الرأي الأول:

وهو المشهور عند أهل العلم؛ أنّ هذه الآيات تدرج نزولها على وجه التنزل في التحدي من الأكثر إلى الأقل، فتحداهم أولا أن يأتوا بمثل هذا القرآن كله كما في آية الطور، فلما ظهر عجزهم تحداهم بمقدار أقل، وهو أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات كما في آية سورة هود، فلما بان عجزهم تحداهم بأقل من ذلك، فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، كما في آية سورة يونس، وسورة البقرة.

قال الواحدي رحمه الله تعالى:

” قوله تعالى: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا ) الآية. هذا احتجاج من الله تعالى عليهم بالمعجزة، أعلمهم -وهم أهل البيان وتأليف الكلام- عجزهم عن الإتيان بمثل ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن تعاونوا عليه، قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال: ( لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ).

وقال مقاتل: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تحداهم أولاً فقال:( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ )، فعجزوا عن ذلك، فتحداهم وقال: ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )، فعجزوا، فآيسهم الله تعالى عن معارضته بمثل ما أتى به في هذه الآية ” انتهى. “التفسير البسيط” (13 / 472).

ومن ذهب إلى هذا اعتمد على أن هذا التدرج هو المتصور عقلا في هيئة التحدي، فلا يلائم مثلا أن يتحداهم أن يأتوا بسورة، فإذا عجزوا يتحداهم أن يأتوا بعشر سور.

كما أنّ التحدي بسورة واحدة ورد متأخرا في سورة مدنية وهي سورة البقرة، والتحدي بأكثر من ذلك ورد متقدما في سور مكية.

قال الرازي رحمه الله تعالى:

“واعلم أنّ التّحدّي بعشر سور: لا بدّ وأن يكون سابقا على التّحدّي بسورة واحدة، وهو مثل أن يقول الرجل لغيره أكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب، فإِذا ظهر عجزه عنه قال: قد اقتصرت منها على سطرٍ واحد مثله.

إذا عرفت هذا فنقول: التّحدّي بالسّورة الواحدة ورد في سورة البقرة، وفي سورة يونس كما تقدّم، أمّا تقدّم هذه السّورة [أي سورة هود] على سورة البقرة: فظاهر، لأنّ هذه السّورة مكّيّة، وسورة البقرة مدنيّة، وأمّا في سورة يونس فالإشكال زائل أيضا، لأنّ كلّ واحدة من هاتين السّورتين مكّيّة، والدّليل الّذي ذكرناه يقتضي أن تكون سورة هود متقدّمة في النّزول على سورة يونس، حتّى يستقيم الكَلام الّذي ذكرناه” انتهى. “تفسير الرازي” (17 / 202 — 203).

وقال رحمه الله تعالى:

” اعلم أنّ التّحدّي بالقرآن جاء على وجوه: أحدها: قوله: ( فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى ). وثانيها: قوله: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ). وثالثها: قوله: ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ) ورابعها: قوله: ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )، ونظير هذا كمن يتحدّى صاحبه بتصنيفه فيقول ائتني بمثله، ائتني بنصفه، ائتني بربعه، ائتني بِمسألة منه، فإنّ هذا هو النّهاية في التّحدّي وإِزالة العذر ” انتهى. “تفسير الرازي” (2/128).

ثم على التسليم بأن سورة هود نزلت قبل سورة يونس، يقال: إن السورة قد يتقدم نزولها، وتتأخر بعض آياتها.

انظر في ذلك: “حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي” (5 / 79 — 80).

الرأي الثاني:

ورأى جماعة من أهل العلم، أن الوارد في ترتيب السور حسب النزول، أي نزول سورة يونس قبل سورة هود: لا يساعد على القول بالترتيب السابق، ورأوا أن نزول التحدي بسورة واحدة في سورة يونس نزل أولا قبل التحدي بعشر سور.

ورأوا المعنى في ذلك أن التحدي بالسورة اشترط فيه المماثلة لسور القرآن ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) معنى ونظما.

وأما في التحدي بعشر سور: ففيه تسهيل، فلم يشترط عليهم إلا المماثلة في النظم، أما المعنى فلهم أن يفتروا ما أرادوا، ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ).

قال البغوي رحمه الله تعالى:

” فإن قيل: قد قال في سورة يونس: ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ )، وقد عجزوا عنه، فكيف قال: ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ)، فهو كرجل يقول لآخر: أعطني درهما فيعجز، فيقول: أعطني عشرة؟

الجواب: قد قيل سورة هود نزلت أوّلا.

وأنكر المبرّد هذا، وقال: بل نزلت سورة يونس أوّلا، وقال: معنى قوله في سورة يونس: ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ )، أي: مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد، فأتوا بعشر سور مثله من غير خبر ولا وعد ولا وعيد، وإِنّما هي مجرّد البلاغة ” انتهى. “تفسير البغوي” (4 / 165).

واختاره ابن عطية، حيث قال رحمه الله تعالى: .

” و “الافتراء” أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية ( بِعَشْرِ)؛ لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر، لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجَّزهم في غير هذه الآية ( بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )، دون تقييد، فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده. وعجزوا في هذه الآية، بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير، والغرض واحد، واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه. فهذه غاية التوسعة.

… وقال بعض الناس: هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة، فيكلفوا عشرا؛ والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة، وآية سورة يونس في تكليف سورة، متركبة على قولهم: (افتراه). وكذلك آية البقرة، وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.

قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين: في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة ” انتهى. “المحرر الوجيز” (3 / 155).

وصحح هذا القول أيضا: الشهاب الخفاجي، كما في “حاشيته علي تفسير البيضاوي” (5 / 79 — 80).

الرأي الثالث:

رأى بعضهم أن التحدي بعشر أو بواحدة لا علاقة له بتقدم النزول وتأخره، وإنما هذا التنوع متعلق بسببه، فالتحدي بواحدة جاء في معرض إقامة الحجة على صدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد، والحجة والمعجزة الدالة على صدق دعوته، تحصل بسورة واحدة.

وأما العشر فجاءت في معرض الرد على أهل الكفر في ما زعموه من أن القرآن مفترى، والكلام المفترى لا بد وأن يتناقض، وهذا القرآن سوره متشابهة لا تناقض بينها، ومعرفة التناقض من عدمه لا بد له من عدد من السور، فلذا تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن في نظمه ومعناه ولا تناقض بينها.

قال الطيبي رحمه الله تعالى:

“وقلت- والعلم عند الله-: والذي يقتضيه المقام أن التي في البقرة ويونس واردة بعد إقامة البرهان على إثبات التوحيد وإبطال الشرك، فالواجب بعد ذلك إقامة البرهان على إثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تثبت النبوة إلا بإظهار المعجزة، وهي التحدي بسورة فذّة من هذا الكتاب الكريم، ولهذا حد المحققون القرآن بأنه: هو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه.

وما نحن بصدده [أي التحدي بعشر سور] وارد في تعنت الكفرة، واقتراحهم الآيات عنادا واستهزاء، كما قال المصنف: ” وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به، ويقولون: هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن، ولمَ أنزل ما لا نريده؟ ! “، بل هو ليس بآية، وإنما هو من افترائك، وليس من عند الله، وكان يضيق لذلك صدره.

واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله: ( وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ) سلاه صلوات الله عليه بقوله: ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )، ولما أضرب عن ذلك الاقتراح، وحكى نوعا آخر من قبائحهم أعظم من ذلك، وهو طعنهم في القرآن، بقوله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ )، أمر حبيبه صلوات الله عليه وسلامه بأن يجيب عنه بقوله: ( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) على مقتضى سؤالهم، وهو كالقول بالموجب. يعني: هبوا أنه كما تزعمون مفترى، فأتوا أنتم بعشر سور مثله، أي: ما أقول لكم، فأتوا بمثله كله، ليس فيه اختلاف من جهة المعاني والألفاظ والإخبار عن المغيبات والقصص والأحكام والأخلاق وغير ذلك، بل نبذا منه جامعا لهذه المعاني، ولم يكن فيه تناقض.

واعلم أن المراد بتخصيص العدد: إيثار طريق القصد، وما به تختلف المعاني، كما يوجد في الكلام المبسوط الذي له ذيول وتتميمات، وذلك لدفع الافتراء ونفي التهمة، وأنه من عند الله لا من عنده، يعني: لو كان مفترى من عندي لوجدتم فيه اختلافا كثيرا، وهذا لا يتم بسورة فذة، كسورة الكوثر والإخلاص وأشباههما، كما يتم في التحدي لمجرد إثبات النبوة، قال تعالى: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ” انتهى. “حاشية الطيبي على الكشاف” (8/ 30 – 31).

والخلاصة:

القرآن الكريم كلام الله تعالى المعجز، والسورة الواحدة منه معجزة كالسور الكثيرة.

وقد تنوعت آيات التحدي، بين التحدي بكل القرآن وبعشر سور منه وبسورة واحدة، ويصعب القطع بترتيب نزولها؛ لأن في ترتيب السور حسب النزول تتعدد الأقوال، ثم من المعلوم أن كثيراً من السور خاصة الطوال لم تنزل جملة واحدة، فقد تنزل السورة وتتأخر بعض آياتها، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم: (217721).

ولذا تنوعت آراء العلماء في بيان وجه التنوع في التحدي مرة بسورة، ومرة بعشر سور، فلأهل العلم في ذلك عدة آراء، أشهرها أن التحدي ورد بالتدرج والتنزل لإظهار عجز البشر عن الاتيان بمثل هذا القرآن، وأنه كلام الخالق سبحانه وتعالى، لأن هذا هو الذي يعقل في هيئة التحدي، ولأن التحدي بسورة ورد في سورة مدنية وهي سورة البقرة، وأما التحدي بعشر فلم يرد إلا في سورة مكية.

والله أعلم.

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android