0 / 0

هل يصلح تفسير قوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ) بالسرعة في الطيران؟

السؤال: 529017

سؤالي عن معنى قوله سبحانه وتعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتاً)، عندما بحثت في المعاجم وجدت أن الكلمة لها معنيان الضم والجمع، أو الطيران السريع، وعندما رجعت إلى التفاسير وجدت المفسرين لم يعطوا هذه الكلمة حقها في البحث، فيقصرون المعنى على الضم والجمع، ويُهملون المعنى الآخر، مع إنه أكثر استعمالا في لغة العرب، فهل يجوز لي أن أفهم من الآية ذلك المعنى الآخر، والذي يتفق مع الحقائق العلمية التي اكتشفها الإنسان اليوم؟ وإذا كان الجواب لا، فماذا نفعل في المعنى الآخر، والذي يعني الحركة السريعة هل نلغيه من القواميس؟

ملخص الجواب

لفظ (كِفَاتًا ): يرد بمعنى الضم والجمع وهو الأصل، وربما أتى بمعنى الحركة السريعة من عدو أو طيران، وهو في قوله تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا): بمعنى الجمع والضم، فهذا الذي عليه أهل التفسير، وهو الذي يناسب النظم والسياق، وتفسير اللفظ المشترك في نص من النصوص بأحد معانيه حيث يكون مناسبا، لا يعني الغاء المعاني الأخرى في سائر النصوص، بل يفسر بالمعاني الأخرى في النصوص المناسبة لها.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

“الكِفات” في اللغة معناه الأصلي: القبض، والضم، والجمع.

قال ابن فارس رحمه الله تعالى: ” (كَفَتَ) أصل صحيح، يدلّ على جمع وضمّ. من ذلك قولهم: كفتّ الشّيء، إذا ضممتَه إليك ” انتهى “مقاييس اللغة” (5/190).

وبهذا المعنى ورد في عدد من الأحاديث النبوية.

قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: “(كَفَتَ): فيه: ( اكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ ) أي ضمّوهم إليكم.

وكلّ من ضممتَه إلى شيء، فقد كفتّه.

يريد: عند انتشار الظّلام.

ومنه الحديث: ( يَقُولُ اللَّهُ للكِرام الْكَاتِبِينَ: إِذَا مَرِض عَبْدي فاكْتُبوا لَهُ مثْلَ مَا كَانَ يَعْمَل فِي صحتَّه؛ حَتَّى أُعافِيَه، أَوْ أَكْفِتَه )؛ أي أضمّه إلى القبر.

ومنه قيل للأرض: كِفات.

ومنه الحديث الآخر: (حَتَّى أُطْلِقَه مِنْ وَثاقي، أَوْ أَكْفِتَه إليَّ).

ومنه الحديث: ( نُهِينا أَنْ نَكْفِتَ الثَّيابَ فِي الصَّلَاةِ )؛ أي نضمّها، ونجمعها من الانتشار، يريد: جمع الثّوب باليدين عند الرّكوع والسّجود ” انتهى “النهاية” (4/184).

وقد يستعمل بمعنى السرعة في العدو أو الطيران؛ وهذا المعنى لوحظ فيه أيضا معنى القبض والجمع.

قال مرتضى الزبيدي رحمه الله تعالى:

” (و) كَفَتَ (الطائر وغيره) يَكْفِتُ (كَفْتاً وكِفَاتاً) ككتاب …: (أسرع في الطّيران).

(و) الكَفَتَانُ من (العَدْوِ) والطّيران، كالحيدان في شدّة. ويقال: كفت الطائر، إذا طار (وَتَقَبَّضَ فيه).

(و) الكَفْتُ فِي عَدْوِ ذِي الحافِرِ: سُرْعَةُ قَبْضِ اليد …

و (رَجُلٌ كَفْتٌ وكَفِيتٌ: سريع خفيف دقيق) … وفرس كَفِيتٌ وقَبيضٌ …

وفي “اللّسان”: عَدْوٌ كَفِيتٌ وكِفَاتٌ: سريع …

(وكَافَتَهُ: سابقه) ، والكفيت: الصاحب الّذي يكافتك، أي يسابقك ” انتهى. “تاج العروس” (5/ 61 – 62).

ثانيا:

قال الله تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) المرسلات/25 – 26.

فـكلمة (كِفَاتًا) ذهب أهل التفسير إلى أنها في هذه الآية بمعنى: الضم والجمع، لا السرعة.

قال ابن عطية رحمه الله تعالى:

” الكفات: الستر، والوعاء الجامع للشيء، بإجماع ” انتهى “المحرر الوجيز” (5/419).

والمشهور في توجيه معناها، هو أنّ ظهر هذه الأرض وعاءٌ ضامٌّ وجامعٌ للأحياء، وهذا في مساكنهم. وبطنها وعاء ضام وجامع لأمواتهم، وهذا في قبورهم.

كما روى سعيد بن منصور في “السنن” (8/237): عن أبي عَوانةَ، عن بَيَانٍ، قال: ( خَرَجْنا في جِنازةٍ فيها عامرٌ الشَّعْبيُّ، فلمَّا انْتَهَيْنا إلى الجَبَّانِ تلا هذه الآيةَ: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال: كِفَاتُ الأمواتِ؛ وأشار إلى القبورِ. وهذه كفَاتُ الأحياءِ؛ وأشارَ بيدِهِ إلى البُيوتِ ).

قال الواحدي رحمه الله تعالى: ” قوله تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا )…

قال ابن عباس: يريد مساكن وقبورا.

وقال مقاتل: تكفت الأحياء فيسكنون ظهرها، وتكفت الأموات في بطنها.

وقال مجاهد: تكفت الميت، فلا يرى منه شيء، والحي إذا أوى إلى بيته.

وقال قتادة: تكفتهم أحياء فوقها على ظهرها، و”أمواتا” إذا قبروا فيها.

وهذا قول جماعة المفسرين ” انتهى “البسيط” (23/ 90 — 92).

ثالثا:

مأخذ أهل التفسير في توجيه ( كِفَاتًا ) في الآية الكريمة إلى الجمع والستر، دون السرعة، هو نظم الآية وسياقها. مع ما ذكرنا قبل عن أهل اللغة، من أن “الجمع والضم”: هو الأصل في معنى “الكفت”.

فأما نظم الآية:

فإنه لا يتناسب مع معنى الطيران السريع؛ لأن ( أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) المشهور أنها منصوبة بـ ( كِفَاتًا ) أو بفعل مضمر مشتق منه تقديره: “تكفتكم” ونحوه؛ على أنها مفعول، أو على أنها حال من ضمير الفعل.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

” قال الفراء: وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ، فإذا نوّنت نصبت، كما يقرأ: ( أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً ).

وقال الأخفش: انتصب على الحال ” انتهى “زاد المسير” (8/449).

وقال أبو حيان الأندلسي رحمه الله تعالى:

“وانتصب ( أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) بفعل يدل عليه ما قبله، أي تكفت أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها. واستدل بهذا من قال: إن النباش يقطع، لأن بطن الأرض حِرز للكفن، فإذا نبش وأخذ منه، فهو سارق.

وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: تكفتكم أحياء وأمواتا، فينتصبا على الحال من الضمير؛ لأنه قد علم أنها كفات الإنس” انتهى “البحر المحيط” (10/376).

فعلى القول بنصب ( أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) على أنها مفعول.

فالطيران السريع أو الفعل المشتق منه ( تطير) لازم غير متعد لا ينصب مفعولا، وإذا عديّ فيكون ذلك بحرف الجر.

وعلى القول بنصب ( أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) على أنها حال، فكذلك لا يستقيم مع معنى الطيران السريع، فما وجه ربط الطيران السريع بالأحياء والأموات؟!

قال الشاطبي رحمه الله تعالى:

” كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه ذلك؛ فهو في دعواه مبطل ” انتهى “الموافقات” (4/ 224 – 225).

وقد تقرر في موضعه: أن السياق من أعظم ما يعين المفسر على تبين معنى النص، والكشف عن مجمله، إن كان ثم مجمل فيه.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

” السياق يرشدُ إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالَّة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته. فانظر إلى قوله تعالى: ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ )، كيف تجدُ سياقَه يدُلُّ على أنه الذليلُ الحقير ” انتهى “بدائع الفوائد” (4 / 1315).

وهذه الآية واردة في سياق ذكر بعض ما يشاهده الناس ويجدونه من النعم التي أسبلها الله تعالى عليهم.

قال الطبري رحمه الله تعالى:

” يقول تعالى ذكره: منبها عباده على نعمه عليهم: (أَلَمْ نَجْعَلِ) أيها الناس (الأرضَ) لكم (كِفاتًا) يقول: وعاء، تقول: هذا كِفْت هذا، وكَفِيته: إذا كان وعاءَه.

وإنما معنى الكلام: ألم نجعل الأرض كِفاتَ أحيائكم وأمواتكم، تكْفِت أحياءكم في المساكن والمنازل، فتضمهم فيها وتجمعهم، وأمواتكم في بطونها في القبور، فيدفنون فيها ” انتهى. “تفسير الطبري” (23/596).

وقال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:

” جاء هذا التقرير على سَنن سابقيه في عدم العطف، لأنه على طريقة التكرير للتوبيخ، وهو تقرير لهم بما أنعم الله به عليهم من خلق الأرض لهم بما فيها، مما فيه منافعهم، كما قال تعالى: ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) … ” انتهى. “التحرير والتنوير” (29/432).

ونعمة الستر واضحة، ففهمها وإدراكها لا يحتاج إلى تكلّف، فالناس فقراء إلى مكان يسترهم حال حياتهم، وإلى مكان يستر جثثهم حال موتهم.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

” أي: أما امتننا عليكم وأنعمنا، بتسخير الأرض لمصالحكم، فجعلناها ( كِفَاتًا ) لكم.

( أَحْيَاءً ) في الدور، ( وَأَمْوَاتًا ) في القبور، فكما أن الدور والقصور من نعم الله على عباده ومنته، فكذلك القبور، رحمة في حقهم، وسترا لهم، عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها ” انتهى. “تفسير السعدي” (ص904).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

” ما ظنك لو جعل الله هذه الأرض شفافة كالزجاج، فدفن فيها الأموات ينظر الأحياء إلى الأموات ــ فلا تكون كفاتا لهم! وما ظنك لو جعل الله هذه الأرض صلبة كالحديد، أو أشد فلا يسهل علينا أن تكون كفاتا لأمواتنا، ولا لنا أيضا في حياتنا! ” انتهى “تفسير العثيمين  الفاتحة والبقرة” (2/210).

وأما الانعام بالطيران السريع فغير ظاهر وجهه.

رابعًا:

أئمة التفسير لم يكونوا غافلين عن أن “كفاتا” قد تأتي بمعنى السرعة، فجمع من أئمة التفسير هم أئمة وعلماء في اللغة، كما أن أئمة اللغة في معاجمهم وهم يذكرون معاني “كفاتا” لم يروا لها معنى في الآية إلا معنى القبض والجمع، لا السرعة، وانظر للفائدة “تهذيب اللغة” للأزهري (10 / 146).

وقال ابن سيده رحمه الله تعالى:

” والكفات: الموضع الّذي يضم فيه الشّيء ويقبض، وفي التّنزيل: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ) هذا قول أهل اللّغة.

وعندي: أن الكفات، هنا: مصدر من “كفت”: إِذا ضم وَقبض، وأن ( أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) منتصب به، أي ذات كفات للاحياء والاموات.

وكفات الأرض: ظهرهَا للاحياء وبطنها للاموات … ” انتهى “المحكم والمحيط الأعظم” (6/ 774).

واللفظ إذا كان مشتركا بين عدة معان: إذا فسر هذا اللفظ المشترك في نص من النصوص بأحد معانيه لقرائن تدل على ذلك، لا يعني هذا أن المعنى الآخر يلغى ويهمل دوما، بل هو معتبر لكنه يحتاج إليه في نصوص أخرى حيث تكون القرائن دالة عليه.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

” ولا خلاف بين العلماء القائلين بوقوع الاشتراك في أن إطلاق المشترك على أحد معنييه في موضع، لا يفهم منه منع إطلاقه على معناه في موضع آخر. ألا ترى أن لفظ العين مشترك بين الباصرة، والجارية مثلا، فهل تقول: إن إطلاقه تعالى لفظ العين على الباصرة في قوله: ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) الآية، يمنع إطلاق العين في موضع آخر على الجارية، كقوله: ( فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ).

والحق الذي لا شك فيه أن المشترك يطلق على كل واحد من معنييه، أو معانيه في الحال المناسبة لذلك …

ولو كان إطلاق المشترك على أحد معنييه، يفيد منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر، لم يكن في اللغة اشتراك أصلا؛ لأنه كل ما أطلقه على أحدهما منع إطلاقه له على الآخر، فيبطل اسم الاشتراك من أصله ” انتهى. “أضواء البيان” (1 / 183).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android