شائع في الشبكة وقرأت في بعض الكتب أن سيدنا عبد الله بن الزبير كان بخيلا صعب الخلق، فهل ذلك صحيح؟
هل تصح نسبة البخل إلى عبد الله بن الزبير؟
السؤال: 530376
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الذين يصفون عبد الله بن الزبير رضي الله عنه بصفة البخل، أقوى ما يعتمدون عليه هو الخبر الذي ورد فيه أن ابن عباس رضي الله عنه عاتبه بسبب البخل.
وهذا الخبر ورد من ثلاثة طرق:
الطريق الأول:
رواه عبد بن حميد في “المنتخب من مسنده” (ص231)، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وابن أبي الدنيا في “مكارم الأخلاق” (ص107)، و الطبراني في “المعجم الكبير” (12 / 154): عن أَبي نُعَيْمٍ الْفَضْل بْن دُكَيْنٍ.
والمروزي في “تعظيم قدر الصلاة” (2 / 593)، قال: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ.
والطحاوي في “شرح معاني الآثار” (1 / 166)، قال: حَدَّثَنَا بذلك أبو بكرة، قال: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ.
والحاكم في “المستدرك” (8 / 215)، قال: حَدَّثَنَا يحيى بن منصور القاضيّ، حَدَّثَنَا أحمد بن سَلَمة، حَدَّثَنَا محمد بن المثنّى، حَدَّثَنَا أبو أحمد الزُّبيريّ.
وعَبْدُ الرَّزَّاقِ، والْفَضْل بْن دُكَيْنٍ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، و مؤمل، وأبو أحمد الزُّبيريّ، كلهم يروونه: عن سُفْيَان، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسَاوِرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُبَخِّلُ ابْنَ الزُّبَيْرِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ.
ومدار هذا الإسناد على عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسَاوِرٍ، وقد اختلفت الروايات في ضبط اسمه، وهذا أصحها، أشار إلى هذا أبو زرعة الرازي في “علل ابن أبي حاتم” (6 / 261).
وعبد الله بن مساور هذا مجهول.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
“عبد الله مساور تابعي مجهول” انتهى. “المغني في الضعفاء” (1 / 358).
وقد ورد هذا الخبر من هذا الطريق في عدد من المصنفات الحديثية خاليا من ذكر صفة البخل، كما عند البخاري في “الأدب المفرد” (112)، و ابن أبي شيبة في “المصنف” ( 17 / 30) وغيرهما.
والطريق الثاني:
رواه المروزي في “تعظيم قدر الصلاة” (2 / 593): عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَنْتَ الَّذِي تُؤَنِّبُنِي وَتُبَخِّلُنِي؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَشْبَعُ وَيَجُوعُ جَارُهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ.
وفي إسناده حكيم بن جبير، وهو ضعيف الحديث.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
“حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير: فيه رفض، ضعفه غير واحد، ومشاه بعضهم وحسن أمره، وهو مُقِل” انتهى. “المغني في الضعفاء” (1 / 186).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: “حكيم ابن جبير الأسدي، وقيل مولى ثقيف الكوفي: ضعيف رمي بالتشيع” انتهى. “تقريب التهذيب” (ص176).
الطريق الثالث:
رواه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (28 / 218) بإسناده: عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُكْثِرُ أَنْ يُعَنِّفَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِالْبُخْلِ، قَالَ: فَلَقِيَهُ يَوْمًا فَعَيَّرَهُ، فَقَالَ له ابن الزبير: مَا أَكْثَرَ ما تُعَيِّرُنِي يا ابن عباس! قَالَ: إن أفعل، فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَشْبَعُ وَجَارُهُ وَابْنُ عَمِّهِ جَائِعٌ.
وهذا إسناد ضعيف جدا، فهو إسناد منقطع، فالليث لم يدرك زمن الحادثة، وقد ضعِّف.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
“ ليث بن أبي سليم الليثي قال أحمد مضطرب الحديث ولكن حدث عنه الناس وقال ابن معين والنسائي ضعيف وقال ابن حبان اختلط في آخر عمره وقال ابن معين أيضا لا بأس به ” انتهى. “المغني في الضعفاء” (2 / 536).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
“ الليث ابن أبي سليم ابن زنيم بالزاي والنون مصغر واسم أبيه أيمن وقيل أنس وقيل غير ذلك صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك ” انتهى. “تقريب التهذيب” (ص464).
فالحاصل؛ أن هذا الخبر لا يصح إسناده.
ثانيا:
قد صح الثناء على ابن الزبير من عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، فروى الإمام مسلم (2545) عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ: ” رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ … “.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
“وقوله فيه: ( وَصُولًا لِلرَّحِمِ ): أصح من قول من بَخَّله، ونسبه لذلك من أصحاب الأخبار، لإمساكه مال الله عمن لا يستحق، وقد عده صاحب كتاب الأجواد فيهم، وهو الذى يشبه أفعاله وشيمته” انتهى. “إكمال المعلم بفوائد مسلم” (7 / 588).
وروى ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (8 / 53)، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضرير، حَدَّثَنَا هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عن محمد ابْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ أُمِّ ذَرَّةَ، قَالَتْ: بَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى عَائِشَةَ بِمَالٍ فِي غِرَارَتَيْنِ، يَكُوْنُ مائَةَ أَلْفٍ، فَدَعَتْ بِطَبَقٍ، وهي يومئذ صائمة، فَجَعَلَتْ تَقْسِمُ فِي النَّاسِ، قال: فَلَمَّا أَمْسَتْ، قَالَتْ: يَا جَارِيَةُ هَاتِي فُطُوْرِي، فَقَالَتْ أُمُّ ذَرَّةَ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ، أَمَا اسْتَطَعْتِ فيما أنفقت أَنْ تَشْتَرِي بِدِرْهَمٍ لَحْماً تفطرين عليه؟ قَالَتْ: لَا تُعَنِّفِيْنِي، لَوْ أَذْكَرْتِيْنِي لَفَعَلْتُ.
ثالثا:
على فرض صحة هذا الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالظاهر أنه ليس متعلقا بماله الخاص، وإنما متعلق بتصرف ابن الزبير في أموال بيت المال أثناء إمارته، فلعله كان يتشدد في صرفها، ويجتهد في النظر في الأصلح، كما يذكر أهل الأخبار، فيكون هذا من باب اختلاف الآراء والاجتهادات، وقد سبق كلام القاضي عياض رحمه الله في ذلك.
وفي “أنساب الأشراف” للبلاذري (7 / 121):
” وقال ابن الكلبي وغيره: كان أهل الشام ينتظرون فناء ما كان عند ابن الزبير من الطعام، فكان يحوط ذلك ولا ينفق منه إلاّ ما يمسك الرمق، ويقول: أنفسهم قويّة ما لم يَفْنَ. يعني أنفس أصحابه ” انتهى.
والخلاصة:
لم يثبت أن ابن الزبير رضي الله عنهما كان متصفا بالبخل.
وما يروى في ذلك على فرض صحته، فالذي يجب على المسلم في مثل هذا أن يحمل تصرفات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على أحسن المحامل ما استطاع، كما قال ابن خلدون أثناء كلامه عن الحسين وابن الزبير رضي الله عنهما، قال رحمه الله تعالى:
” والكلّ مجتهدون محمولون على الحقّ في الظّاهر وإن لم يتعيّن في جهة منهما … هذا هو الّذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السّلف من الصّحابة والتّابعين، فهم خيار الأمّة، وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الّذي يختصّ بالعدالة؟! والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ – مرّتين أو ثلاثا- ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ )، فجعل الخيرة وهي العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه، فإيّاك أن تعوّد نفسك أو لسانك التّعرّض لأحد منهم، ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم، والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت، فهم أولى النّاس بذلك ” انتهى. “تاريخ ابن خلدون” (1 / 271).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب