وجدت ذكرًا لتشبيه الجبال بالرواسي في الجاهلية، ومن ذلك شعر المهلهل في “تواريخ الأعيان” لسبط ابن الجوزي، وشعر زيد بن عمرو بن نفيل في “البداية النهاية” لابن كثير، و”التاريخ الكبير” لابن هشام و”تفسير القرطبي”، و”لسان العرب” لابن منظور، وخطب قس بن ساعدة في “البداية والنهاية” لابن كثير، و”دلائل النبوة” للبيهقي، فأرجو التحقق عما إذا لم يكن ذلك الشعر منحولًا أو الأحاديث ضعيفة.
وصفت الجبال في القرآن الكريم بالرواسي والأوتاد، كقوله تعالى:
( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ، وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ) المرسلات/25 – 27.
وكقوله تعالى:
( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) النبأ/6 – 7.
وقد يجد المطالع لأخبار أهل الجاهلية الواردة في كتب التاريخ والسير والأدب؛ أن بعضهم في شعره أو خطبه أو كلامه يصف الجبال بالرواسي والأوتاد.
وبعض أهل الإلحاد والكفر يتخذ مثل هذه الأخبار كمستند للتشكيك في كون هذا الكتاب الكريم كلام الله تعالى الخالق لهذا الكون.
لكن هذا التشكيك لا قيمة له؛ للأمور الآتية:
الأمر الأول:
أن ليس كل أشعار أهل الجاهلية وكلامهم ثابتا مقطوعا بصحته، بل كثير منه يذكر من باب الاستئناس والتساهل في باب الأخبار والتواريخ، ولا يمكن القطع بصحة ثبوته، وجملة منه مما قطع أهل العلم بأنه منحول مكذوب.
ومن ذلك الباب: كثير من شعر أمية بن أبي الصلت وغيره ممن روي عنهم أشعار متعلقة بالأديان. فكل مطالع لها، ومقارن لها بآيات القرآن الكريم إذا كان له أن يشك، فشكه في صحة هذه الأشعار ونسبتها إلى أصحابها، هو الصواب، فلا الأسلوب أسلوب أهل الجاهلية، ولا السند إلى أصحابها بذلك الثابت الذي تقوم به الحجة، ولو مع المسامحة.
قال الدكتور شوقي ضيف رحمه الله تعالى:
” وجمع له [أي لأمية بن أبي الصلت] شولتهس Schulthess مجموعة من أبياته، ترجمها إلى الألمانية ونشرها فى ليبزج سنة 1911، وفى سنة 1936 نشر له بشير يموت في بيروت طائفة من أشعاره باسم ديوان أمية.
وتدور هذه الأشعار في موضوعين أساسيين: أما الموضوع الأول فيتحدث فيه عن خلق السموات والأرض ونشأة الكون، مستدلا بذلك على وجود الله، ومتحدثا عن الموت والفناء والبعث والنشور والعذاب والثواب على شاكلة قوله:
إله العالمين وكل أرض … وربّ الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا … بلا عمد يُرَيْن ولا رحال
وسوّاها وزيّنها بنور … من الشمس المضيئة والهلال
… وهذه المعانى تستمد من القرآن الكريم بصورة واضحة، وأسلوبها ضعيف واهن، ولذلك كنا نظن ظنّا: أنها وما يماثلها، مما نحل على أمية.
والموضوع الثاني الذى يدور فيه شعره: ليس أقل من الموضوع الأول اتهاما، بل لعل الاتهام فيه أوضح، إذ نراه يقص علينا سير الأنبياء قصصا لا يكاد يفترق فى شيء عما جاء فى القرآن الكريم، كقوله فى رؤية إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل وما كان من افتدائه بذبح عظيم:
ولإبراهيم الموفّى بالنّذ … ر احتسابا وحامل الأجزال
بكره لم يكن ليصبر عنه … أو يراه فى معشر أقتال
… وواضح أن هذا شعر ركيك، ساقط الأسلوب، نظمه بعض القصاص والوعاظ فى عصور متأخرة عن الجاهلية. وقد ذهب هيار يزعم، حين اطلع على هذا القسم من شعر أمية، أنه اكتشف فيه مصدرا من مصادر القرآن الكريم، ولو كان له علم بالعربية وأساليب الجاهليين، لعرف أنه وقع على أشعار منتحلة بينة الانتحال، ولما تورط فى هذا الخطأ البيّن.
وقد رد عليه غير واحد من المستشرقين …
وواضح مما قدمناه أن ما روى من أشعار على ألسنة اليهود ومن تنصّر من العرب فى الجاهلية، وكذلك من تحنّف كأمية، دخله وضع كثير، ولذلك ينبغي أن نحترس منه، وأن لا نتسع في الحكم عن طريقه على ديانات القوم ومعتقداتهم، إذ يجرى فيه الانتحال، وقد دخله كثير من الغثاء والإسفاف فى اللفظ والتعبير ” انتهى. “تاريخ الأدب العربي” (1 / 395 – 397).
الأمر الثاني:
أن من هؤلاء الشعراء من كان يطالع كتب أهل الكتاب، ويتصل بأصحاب هذه الديانات، وأمور الخلق والبعث، مما تشترك فيه الكتب الألهية، فقد ينزل الله تعالى من آيات القرآن الكريم ما أنزل معناه في كتب سابقة، كما في قوله تعالى:
( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) الأعلى/14 – 19.
الأمر الثالث:
أن وصف أهل الجاهلية للجبال بالأوتاد والرواسي، إن ثبت ذلك عنهم، فليس فيه إلا أنه وصف لما يظهر لهم من شكل الجبال؛ أنها ثابتة وراسية في الأرض كالوتد.
وهذا أمر يدركه كل عربي، بل كل إنسان، وإذا عبر عنه كل عربي، بالجبال الرواسي: لم يكن في ذلك مؤونة عليه، ولا إشكال، ليس المهلهل وأمية وقس وحدهم، بل كل عربي. والوحي عربي، ويحدث الناس عما يدركونه بحواسهم، ويعبر لهم بلسانهم الذي يعرفون؛ فأي عجب في أن يصف لهم الجبال بوصف، وقع نظيره أو شبيهه في أشعار العرب؟! إن هذا عجب من العجب، وسخف من القول والباطل، لا ينشغل به إلا أغمار الناس، وسفهاء الأحلام.
ثم لقائل أن يقول أيضا: إن القرآن الكريم وهو يذكر وصف الجبال بالرواسي والأوتاد، ليس لمجرد ما يظهر من شكلها فقط؛ وإنما لأمر آخر أيضا لا يدركه إلا خالق هذا الكون، وهو أنها لتثبيت الأرض حتى لا تتحرك وتضطرب بأهلها، ويظهر هذان المعنيان في قوله تعالى: ( وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) النحل/15 – 18.
قال شيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
“قوله تعالى: ( وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ )، ذكر جل وعلا في هاتين الآيتين أربع نعم من نعمه على خلقه، مبينًا لهم عظيم منته عليهم بها:
الأولى: إلقاؤه الجبال في الأرض لتثبت ولا تتحرك، وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن، كقوله: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) … والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
ومعنى تميد: تميل وتضطرب.
وفي معنى قوله: ( أَنْ ) وجهان معروفان للعلماء:
أحدهما: كراهة أن تميد بكم.
والثاني: أن المعنى: لئلا تميد بكم، وهما متقاربان ” انتهى. “أضواء البيان” (3 / 306).
ولمزيد الفائدة تحسن مطالعة جواب السؤال رقم: (247024).
والله أعلم.