أريد أن أسأل سؤالاً هو أن تفسير القرآن الكريم يؤخذ عن طريق الشعر العربي، فكيف نثق في الشعر العربي، وهو غير منقول بالتواتر مثل الأحاديث؟
فالشعر يتعرض للتحريف، قال الميمني: \\\”النقل بالمعنى شيء ليس بمقصور على الأحاديث فحسب، بل إن تعدّد الروايات في بيت واحد من هذا القبيل، والقول بأن منشأه تعدّد لغات القبائل ليس مما يتمشى في كل موضع، على أن إثبات ذلك في كل بيت دونه خرط القتاد، زِدْ إلى ذلك ما طرأ على الشعر من التصحيف، والوضع، والاختلاق من مثل ابن دأب، وابن الأحمر، والكلبي، وإخوانهم\\\”.
ما حكم الاسشهاد بالشعر العربي في تفسير القرآن؟
السؤال: 535638
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
عملَ السَّلفِ هو الاستشهاد بالشعر على تفسير القرآن الكريم، ولم ينقل عن أحد منهم إنكارٌ على من فعل ذلك، بل نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب" أخرجه الحاكم (رقم: 3845) ، وهو حسن.
وكان إذا سُئِل عن الشيء من عربية القرآن يُنْشِدُ الشعر. رواه ابن أبي شيبة (29974)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد فضائل الصّحابة" (رقم: 1916) ، وإسناده صحيح.
وكتبُ التفسيرِ حافلةٌ بالشواهد الشعرية، مما يدلُّ على أَنَّهم يرونَهُ جائزًا.
ولذلك يقول ابن الأنباري بعد أن أوردَ خَمسين مسألة من مسائل سأل نافعُ بن الأزرقِ عنها عبدَالله بن عباس، فكان ابن عباس يجيبه عن كل سؤال، ويستشهد على جوابه ببيت من الشعر: " وهذا كثير في الحديث عن الصحابة والتابعين – أي الاستشهاد بالشعر في التفسير – إلا أنا نجتزئ بما ذكرنا كراهيةً لتطويل الكتاب، وإنما دعانا إلى ذكر هذا أن جماعة لا علم لهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معرفة لهم بلغة العرب، أنكروا على النحويين احتجاجهم على القرآن بالشعر" انتهى "إيضاح الوقف والابتداء" (1/ 99 – 100).
يقول البغدادي: "طبقة الجاهليين وطبقة المخضرمين يستشهد بشعرهما إجماعاً" انتهى من " خزانة الأدب للبغدادي" (1/6).
انظر: "التفسير اللغوي للقرآن الكريم" د. مساعد الطيار(ص: 71)، "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" للجديع(ص: 308)، رسالة دكتوراه: "الشاهد الشعري في تفسير القرآن الكريم" د. عبد الرحمن الشهري(ص: 47، 207).
ثانياً:
ما ورد من استنكار ابن حزم والرازي من صنيع اللغويين؛ فإنه لا يدل على كراهية الاستشهاد بالشعر في التفسير واللغة، وغايته التعجب من العناية بشعر العرب وشواهده، وإغفال شواهد القرآن والحديث.
انظر: "الفصل في الملل" لابن حزم 3/231)، "تفسير الرازي" (9/57)، "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" لمحمد عضيمة (1/27).
ثم "ما ذكره ابن حزم والرازي رحمهما الله من تعجبهم من صنيع اللغويين والعلماء في استشهادهم بالشعر، وتركهم للقرآن الكريم، فإن هذا لم يكن منهجًا لأحد من علماء التفسير فيما اطلعت عليه، وإِنَّما المنهج الذي سار عليه العلماء: أَنَّهم قد جعلوا القرآن أصلًا أصيلًا يُقَاسُ عليهِ، وأن الشعر يأتي بعد ذلك من حيث الاستشهاد والثقة". انتهى من "الشاهد الشعري" (ص: 49)..
ينظر رأي الإمام أحمد رحمه الله في الاحتجاج بالشعر، "المسودة" (ص/ 175)،" تهذيب الأجوبة" (ص/ 186)، "التحرير والتنوير" (1/23)، "التفسير اللغوي للقرآن الكريم" (ص/ 160)، "الشاهد الشعري" (ص/ 46،192).
ثالثاً:
عمل المحققين من أهل التفسير في بيان معنى كلمة: عدم الاستقلال بالاستشهاد بالشعر مجرّداً عما يعضده، يقول الشاطبي رحمه الله: "أما الاعتمادُ على الشعر مجردًا من نثر شهيرٍ يضاف إليه، أو يوافق لغةً مستعملةً يُحمل ما في الشعر عليها، فليس بمعتمد عند أهل التحقيق؛ لأن الشعر محل الضرورات" انتهى من "شرح ألفية ابن مالك" للشاطبي (3/405).
وقال ابن جني: "ومنها لم يسمع إلا في الشعر، والشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار. وكثيرًا ما يحرّف فيه الكلم عن أبنيته، وتحال فيه المثل عن أوضاع صيغها لأجله" انتهى "الخصائص" (3/191).
رابعاً:
ما قاله العلامة الأديب عبدالعزيز الميمني الراجكوتي رحمه الله (ت 1978م)، وقد كان في "حاشية خزانة الأدب" للبغدادي(1/23)، وطبع ضمن بحوث وتحقيقات عبد العزيز الميمني (1/286).
أ- تقرير الميمني رحمه الله هنا جاء تعليقاً ورَدّاً على ما حكاه البغدادي عن أبي الحسن بن الضائع في "شرح الجمل"، وأبي حيان الأندلسي في "شرح التسهيل" بعدم جواز الاحتجاج بالحديث؛ حيث قال البغدادي رحمه الله: "وقد منعه ابن الضائع وأبو حيان، وسندهما أمران: أحدهما: أن الأحاديث لم تنقل كما سُمعت من النبي ﷺ؛ وإنما رويت بالمعنى، …" انتهى.
وقد ذكر البغدادي دفاع البدر الدّمَامِينيّ في "شرح التسهيل" عن ابن مالك في احتجاجه بالحديث الشريف، ومما قاله الدّمَامِينيّ: "لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين، ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى، فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه، فلذلك تراهم يتحرون في الضبط، ويتشددون، مع قولهم بجواز النقل" انتهى "خزانة الأدب للبغدادي" (1/9، 14).
إن الميمني رحمه الله في قوله هذا، أراد أن يُلزم من لا يحتجون بالاستشهاد بالحديث في اللغة، كابن الضائع وأبي حيان ومن سار على طريقتهم بنفس ما استدلوا عليه بالاستشهاد بالشعر؛ بما يرد عليه من رواية بالمعنى وضعف وتحريف.
ب- الميمني لا يرفض الاحتجاج بالشعر في التفسير أو اللغة، والدليل على ذلك أنه لم يُبدِ اعتراضًا على الصفحات التي أوردها البغدادي في الاحتجاج بالشعر في مسائل اللغة. وفي الوقت ذاته انتقد من ينكر الاحتجاج بالحديث، فسكوته كان إقراراً ضمنياً، مما يُبرز أن موقفه كان توجيه النقد إلى ازدواجية المعايير، لا إلى مبدأ الاحتجاج بالشعر ذاته.
خامساً:
لم يدع أهل اللغة والمفسرون الاستشهاد بالشعر بدون معايير ولا شروط؛ بل وضع أهل اللغة معايِيْر لقبول الشاهدُ الشعري، وسار عليها المفسرون، وأَهمُّ هذه المعايير هي:
أولًا – المعيار الزمني:
وُضِعَ حدٌّ زمنيٌّ لما يصح الاحتجاج به من أقوال العرب شعرًا أونثرًا، فاتُّفِقَ على جَعْلِ منتصف القرن الثاني للهجرة نِهايةً لعصر الاحتجاج بشعراء الحاضرة، وذكروا أَنَّ آخرَهمْ إبراهيمُ بنُ هَرْمَة (ت 176 هـ)، وجَعْلِ منتصف القرن الرابع الهجري حدًا لشعراء البادية. انظر: "المزهر" (2/484).
وقد استقرَّ تقسيمِ الشعراءِ حسبَ عصورهم الزمنية، إلى أربع طبقات: الطبقة الأولى: طبقة الشعراء الجاهليين، الطبقة الثانية: طبقةُ المخضرمين، الطبقة الثالثة: طبقة الإسلاميين، وهم الذين عاشوا في صدر الإسلام ولم يدركوا الجاهلية، كجرير، والفرزدق. (استقر رأي العلماء على صحة الاستشهاد بشعر الطبقات الثلاث الأولى)، الطبقة الرابعة: طبقة المُولَّدين، ويقال لهم المُحدَثون كبشارِ بن برُد (لم يستشهدوا بشعرهم) .
ثانيًا – المعيار المكاني:
وهو ما يُمْكِنُ أن يُسمَّى مقياسَ «البداوة والتحضر»، فقد قام اللغويون بمراجعة أشعارهم للوقوف على بداوة هذا الشاعر وحضارة ذاك؛ لأن البداوة كانت شرطًا من شروط الفصاحة.
ثالثًا – المعيارُ القَبَليُّ:
وقد اشترط أهل العربية فيمن تؤخذ عنه اللغة، ويجوز الاحتجاج بأشعارهم ألا يكونوا من القبائل التي تسكن أطراف الجزيرة العربية، مجاورين بذلك الأعاجم أو الأحباش أو غيرهم من الأمم. انظر: "الشاهد الشعري" (ص:96 – 115).
خامساً: كذلك جعلوا شروطا لقبول الشاهد الشعري، فمنها:
1- أن يكون القائل مِمَّن يُحتج بشعره.
2- شهرة الشاهد وذيوعه بين العلماء.
3 – ثقة رواة الشاهد الشعري: فقد اعتمد العلماء على شواهد من الشعر لم يعرف قائلوها، ثقة في رواتها كأبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، وسيبويه وأمثالهم ممن يوثق بروايتهم عن العرب، وقد اعتمد العلماء على أبيات سيبويه، مع إغفاله نسبة أكثرها، ثقةً بنقلهِ وأمانتهِ.
4 – ألا يَحتملَ الشاهدُ التأويلَ: وذلك بأن تكون دلالته على المراد صريحة، ولا يمكن تأويله بوجه. انظر: "الشاهد الشعري" (ص: 530).
وللاستزادة: انظر رسالة دكتوراه تجيب عن جميع تساؤلاتك بإذن الله تعالى، وهي رسالة "الشاهد الشعري في تفسير القرآن الكريم" ، د. عبدالرحمن بن معاضة الشهري (ص: 49)). وانظر: "التفسير اللغوي للقرآن الكريم" د. مساعد الطيار، ورسالة دكتوراه بعنوان: "مصادر الشعر الجاهلي" د. ناصر الدين الأسد.
وانظر: فتوى: (411510)، (416012).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة