أقوم بعمل حلقات تفسير مع أصحابي في المصلى أيام اجتماعنا، وما نفعله هو: أننا نبدأ بتدارس كتب التفسير مع بعضنا البعض، ونستفيد منها، بعد الانتهاء من ذلك نبدأ بالشق الثاني، والذي أعتبره الأهم، وهو: التدبر، فهذا السبب الأعظم من نزول القرآن، فهكذا نحاول استخراج علم نافع أو عمل صالح من كل آية، وأحيانا ربما نخرج بمعنى لم نسمعه من أحد من المفسرين، فمثلا في تدبرنا لسورة النبأ عند قول تعالى (عم يتساءلون) استخرجنا منها أنه من أساليب الخطاب الدعوي أن يبدأ الداعي مع المدعو بجملة تلفت النظر كسؤال مثلا، وعند قوله (الذي هم فيه مختلفون) قلنا: إن الله سبحان وتعالى قال مختلفون لا يختلفون (جملة اسمية) لبيان أن هذا الاختلاف دائم ثابت ليوم القيامة، فليس على الداعي أن يحزن إذا لم يستجب المدعو، وعند قوله (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) قلنا: إنه قدم فوقكم على سبعا شداد للضيف معنى جديدا وهو لبيان أن الكافر تحت رحمة، فهذه السماء التي فوقه قد تسقط عليه في أي وقت فأنى له التكبر، ومن حلم الله عليه أنه لا يأمرها بذلك، وعند قوله تعالى (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) قلنا: إنه قدم من المعصرات على ماء ثجاجا لكي يضيف معنى جديدا وهو دلالة على قدرة الله العجيبة، فهو قادر على أن يحول هذه السحب الغازية التي تطوف في السماء إلى ماء كثير متتابع ينزل على الأرض، وهكذا ، لكن قال لي أحد الناس: إن هذا التدبر يجب أن نراجع نتائجه عند أهل العلم؛ لإنه قد يكون مخلا بمعنى الآية، وقد يكون تقولا على الله تعالى، لكننا نعلم أنه طالما تدبر فلا يجب أن يكون صحيحا ١٠٠٪، لكننا نتشارك نتائج تدبرنا، وإن كان صحيحا فمن الله تعالى، وإن كان خطأ فمن الشيطان ومن أنفسنا، فهل كلامه صحيح، وما نفعله تقول على الله سبحانه دون علم؟
أولًا:
نسأل الله العظيم أن يبارك لكم في صحبتكم أيها الأخ الكريم، وأن يبارك عليكم، وأن ينفعكم بالقرآن وينفع بكم، وأن يزيدكم من العلم النافع والعمل الصالح.
ثم ينبغي الانتباه إلى الفرق بين معرفة معنى الآية في لغة العرب، وبين معرفة مراد الله من الآية، وبين التدبر المبني على فهم الآية، وهذه أربعة مقامات لفهم القرآن وتدبره، يحسن التمييز بينها:
فالأول؛ المعنى اللغوي:
ويشترك في العلم به كلُّ من عرف معاني الألفاظ والجمل في لغة العرب الذين نزل القرآن بلسانهم.
يقول الطبري رحمه الله وهو يعدُّ الوجوه التي يوصل بها إلى فهم القرآن ومعرفة معناه:
“منه ما يَعلم تأويلَه كلُّ ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن. وذلك: إقامة إعرابه، ومعرفة المسمَّيات بأسمائها اللازمة غيرِ المشترَك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحدٌ منهم.
وذلك كسامعٍ منهم لو سمع تاليًا يتلو: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ)، لم يجهل أنّ معنى الإفساد: هو ما ينبغي تركهُ مما هو مضرَّة، وأن الإصلاحَ: هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعةٌ، وإنْ جَهِل المعانيَ التي جعلها الله إفسادًا، والمعانيَ التي جَعلها الله إصْلاحًا.
فالذي يعلمه ذو اللسان – الذي بلسانه نزل القرآنُ – من تأويل القرآن، هو ما وصفتُ: مِنْ معرفة أعيان المسمَّيات بأسمائها اللازمة غيرِ المشترَك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة، دون الواجب من أحكامها وصفاتها وهيآتها التي خص الله بعلمها نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يُدرَك علمُهُ إلا ببيانِه، دون ما استأثر الله بعلمه دون خلقه”، انتهى من “تفسير الطبري” (1/75).
فالعالم بلغة العرب، إذا قرأ الآيتين المذكورتين؛ علِم الإفساد وأنه مرهَّب منه، والإصلاح وأنه مرغَّب فيه، وإن لم يعلم مراد الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، أو كيف يفسدون وهم لا يشعرون.
والمقام الثاني؛ معرفة مراد الله تعالى من الآية، وهو تفسير الآية:
ومعرفة تفسير القرآن وبيان معناه، أي: معرفة مراد الله تعالى من كلامه، هي وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
يقول السعدي رحمه الله في تفسيره (ص441):
“{وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} أي: القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من أمور دينهم ودنياهم، الظاهرة والباطنة، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ}، وهذا شامل لتبيين ألفاظه وتبيين معانيه”، انتهى.
ولا يجوز في هذا المقام القول بالرأي ولا بالظن، ويحرم أن ينسب المرء شيئًا إلى مراد الله تعالى، إلا ببرهان أنه مراد الله تعالى من كلامه، وإلا كان تقولًا على الله، وقولًا على الله بلا علم، وهو من المحرَّمات الكبائر، لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “تفسير القرآن ليس بالأمر الهين، لأن تفسير القرآن يعني أنك تشهد على أن الله أراد به كذا وكذا، فلابد أن يكون هناك دليل: إما من القرآن نفسه، وإما من السنة، وإما من تفسير الصحابة رضي الله عنهم. أما أن يحول الإنسان القرآن على المعنى الذي يراه بعقله أو برأيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)” انتهى من “تفسير ابن عثيمين” (ص180).
فالتفسير هو بيان مراد الله تعالى من كلامه، أي: المراد المخصوص من الآية المخصوصة، فلا يكفي أن يكون المعنى صوابًا في اللغة حتى يقول المرء إنه هو مراد الله من آية كذا، بل لا بد أن يكون مع القائل برهان وعِلم وحجة أن هذا المعنى هو مراد الله في هذا الموضع.
وللفائدة حول طرق معرفة مراد الله تعالى من القرآن، ينظر إجابة السؤال: (270289).
والمقام الثالث؛ معرفة وقوع وتحقق ما أخبر الله به، وهو تأويل الآية أو ما تئول إليه الآية:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي: كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولمَّا يأتهم تأويله. ففرَّق بين الإحاطة بعلمه، وبين إتيان تأويله.
فتبيَّن أنه يمكن أن يحيط أهلُ العلم والإيمان بعلمه، ولمَّا يأتهم تأويله، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله، فإنَّ الإحاطة بعلمه: معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل: نفس وقوع المخبَر به، وفرقٌ بين معرفة الخبر، وبين المخبَر به، فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن، ومعرفة المخبَر به هي معرفة تأويله … فالتأويل؛ هو الحقيقة الخارجة، وأما معرفة تفسيره ومعناه؛ فهو معرفة الصورة العلمية.
وهذا هو الذي بينَّاه فيما تقدَّم: أن الله إنما أنزل القرآن ليُعلَم ويُفهَم ويُفقَه ويُتدبَّر ويُتفكَّر فيه، محكمه ومتشابهه، وإن لم يُعلَم تأويله” انتهى مختصرًا من “مجموع الفتاوي” (13/ 283).
وكثير من أهل العلم يطلق على (التفسير) الذي ذكرناه سابقا: (تأويلا)، كالذي ذكرناه هنا أيضا، كالطبري وغيره، وليس في ذلك حرج، فكل من هذين من معرفة مراد الله من الآية.
والمقام الرابع؛ تدبر الآية والاعتبار والاتعاظ بها ومعرفة ما يستفاد منها للعمل به:
وهذا هو الذي ذمَّ الله تعالى المنافقين والكافرين على تركه، فقد كان منهم العرب الذين يعرفون المعنى اللغوي، وقد بيَّن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم مراد الله تعالى منه أيضًا، لكن كان منهم من يُعرض ولا يسمع الذِّكر، وكان منهم من يَسمع ثم يكذِّب بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم عنادًا، أو يجحد الحجج والبينات بعد أن تبينت له.
وكان منهم أيضًا من يستمع فيفهم مراد الله من القرآن، وتبلغه الحجة بيَّنة، لكنه لا يتدبر، ولا يتفكر، ولا يتعظ، ولا يتأمل.
فتركوا التدبر، أي: التفكر والتذكر والنظر والتأمل والاعتبار، فبذلك تركوا ما يورث الخشية والتصديق، ويزيد الإيمان والعمل الصالح.
يقول الشيخ مساعد الطيار: “والأصل أن مرحلة التدبر تأتي بعد الفهم … وأن التدبر يكون فيما يتعلق بالتفسير، أي أنه يتعلق بالمعنى المعلوم”، انتهى مختصرًا من “مفهوم التفسير” (ص187).
فالتدبُّر ليس قبل الفهم، والفهم الصواب هو معرفة التفسير، وهو معرفة مراد الله من الكلام، وقد سبق شرح الجائز من ذلك والممنوع.
ثانيًا:
ليس التدبر هو إحداث معنى من (التفسير) لم يقل به أحد، ثم ذكره على أنه مراد الله تعالى، ولا يُلتمَس فيه الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، بل هذا خطر عظيم.
وهناك بعض الأمور يترجح بها أن قائلها قد سلك مسلك (التفسير) وبيان معنى كلام الله ومراده تعالى منه، وليس مسلك (التدبر)، مثل أن يقول القائل: (مراد الله من هذه الآية كذا) أو (قدَّم الله كلمة كذا لأنه يريد بذلك بيان كذا)، بلا حجَّة ولا علم مأثور، فهذا هو التقول على الله، وهو القول على الله بلا علم، وقد سبق أنه من الكبائر، وأن القائل في القرآن برأيه وظنِّه بلا حجة؛ قد أخطأ وأثِم حتى إن كان ظنُّه ورأيه صوابًا في هذا الموضع.
وهذا بخلاف أن يقول: يستفاد من هذه الآية كذا، أو: استفدت كذا، أو: من فوائد استعمال الجملة الاسمية في اللغة كذا.
ثم: هذه الدقائق واللطائف؛ الأصل فيها أنها للعلماء، وتكون بعد إتقان معرفة (التفسير) كما سبق، وأولى وأعظم مراتب التدبر: معرفة المعنى المطابق للآية وهو معرفة التفسير، وكثير من الناس لا ينبغي أن يتجاوز هذه المرتبة.
يقول الشيخ خالد السبت عن أنواع التدبُّر: “إن من هذه الأنواع ما يصلح لعموم الناس، ومنها ما لا يُحسِنُه إلا العلماء، وبناء على ذلك فإن من الشَّطَط أن تتوجَّه الأذهانُ عند الحديث عن التدبر إلى استخراج المعاني واللطائف والنِّكات الدقيقة التي لم نُسْبَق إليها(!!) فإن ذلك لا يصلح إلا للعلماء، لكنَّ المؤمن يتدبر ليُرَقِّق قلبه، ويتعرَّف مواطنَ العِبَر، ويَعْرِض نفسَه على ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم من أوصاف المؤمنين، ويحذر من الاتصاف بصفات غيرهم، إلى غير ذلك مما ينتفع به، ويمكن حصوله لكلِّ من تدبر كتاب الله عز وجل”، انتهى من “الخلاصة في تدبر القرآن الكريم” (ص36).
وللمزيد حول معنى تدبر القرآن وكيفية تدبره تراجع إجابة السؤالين: (239712)، و(312089).
ثالثًا:
بعض الأمثلة الواردة في السؤال لا حرج فيها، مثل استفادتكم أن من أساليب الخطاب الدعوي: الابتداء بسؤالٍ ينبه المدعو، فليس في ذلك نسبة شيء لمراد الله تعالى.
أما كل شيء يُنسب لمراد الله تعالى من غير حجة، فينبغي تجنّبه، أو عرضه على أهل العلم بالتفسير، حتى لا يعدّ قولًا في القرآن بالرأي والظن بلا علم ولا حجة، مثل قول القائل: إن الله قدَّم كلمة كذا وأخَّر كذا (ليضيف معنًى جديدا)، وهو كذا، ونحو ذلك!
كذلك ننصحكم بالاستزادة من قراءة كتب التفسير المعتنية بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، مثل تفسير ابن كثير، وبالاستعانة بالكتب المعينة على التدبر، مثل تفسير السعدي، فكثرة مطالعتها تدرب على التدبر النافع، إضافة إلى ما فيها من فوائد، ولمعرفة عدد من هذه الكتب تراجع إجابة السؤال: (312094).
والله أعلم.