لقد أشكل عليّ فهم الآيات التالية: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)) سورة المعارج/19-22.
ما فهمته من هذه الآيات أن الإنسان بطبعه يخلق هلوعا وشديد الحرص، لا يتحمل المصائب، ويكون بخيلًا عند النعم، ولا يتخلص من هذا الطبع إلا المصلين، ولكن ما يشكل عليّ هو أنني أرى بعض الناس الذين ليسوا على الإسلام ـ مثل المسيحيين أو البوذيين أو حتى الملحدين واللادينين ـ يظهرون صبرًا، وتحملًا عند المصائب، وكذلك يكونون كرماء عند النعم.
فكيف نوفق بين ما يظهر من هذه الآيات الكريمة وما نراه في الواقع؟
هل الجزع والهلع والبخل صفات لازمة لغير المصلين؟
السؤال: 538227
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
مما هو متقرر أنّ ما قد يظهر لبعض الناس من إشكالات في فهم بعض الآيات في التعارض بينها وبين بعض ما هو متقرر عنده من حقائق إنما هو فيما يظهر له وليس تعارضا في حقيقة الأمر، وسبب حصول هذا التعارض، وذلك بسبب عدم فهم الشخص لمدلولات ألفاظ النص ومعرفة تفسير الآية، أو اشتباه في الدلالة في الآيات المتشابهة، وأحياناً لعدم استيعابه للنصوص المقيِدة لما هو مطلق، أو تخصيص ما هو عام، أو ناسخ ومنسوخ ونحو ذلك.
وأيّاً ما كان الأمر؛ فبخصوص ما اشرت إليه من إشكال في الاستثناء في قوله تعالى: (إلا المصلين…الآيات)، مع ما تراه من بعض الكفار والملاحدة لديهم من الصبر وعدم الجزع واتصافهم بالكرم.
فالجواب عن هذا الإشكال: أن تفسير الآيات يبين لك أنه لا إشكال، وذلك أن المفسرين بينوا أن المعنى أنّ جنس الإنسان مجبول على الهلع والجزع، إلا من وصفهم الله بهذه الصفات ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ..إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المعارج: 22-34]
فإنهم يتخلصون من الهلع والجزع الجبلي، بما اتصفوا به من صفات، وذلك أنّ التدافع بين الجبلي والمكتسب معلوم في حياة الناس، وفي الحديث (إنما الحلم بالتحلم).
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
"وهذا الوصف للإنسان من حيث هو وصف طبيعته الأصلية، أنه هلوع.
وفسر الهلوع بأنه: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} فيجزع إن أصابه فقر أو مرض، أو ذهاب محبوب له، من مال أو أهل أو ولد، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله.
{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} فلا ينفق مما آتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه وبره، فيجزع في الضراء، ويمنع في السراء.
{إِلا الْمُصَلِّينَ} الموصوفين بتلك الأوصاف فإنهم إذا مسهم الخير شكروا الله، وأنفقوا مما خولهم الله، وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا" انتهى من "تفسير السعدي" (ص887).
وإذا كان ذلك حكما على "الجنس"، لم يلزم أن يكون كل فرد فيه موصوفا بذلك؛ وإنما حكم "أغلبي"، قد يخرج منه بعض أفراده.
قال الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾
"ولفظ: (الإنسان) هنا مفرد، ولكن أريد به الجنس، أي: جنس الإنسان في الجملة» انتهى من "أضواء البيان" (8/ 268).
فقوله في الجملة يدل على أنّه وصف اغلبي، أي إن هذه صفات أغلب الناس، ولا يلزم أن كل الأفراد غير المصلين متصفون بها. فقد يكون من غير المسلمين من عنده من الصبر والجلد والكرم، ولكن هذا قليل بالنسبة إلى من اتصف بخلال السوء فيهم. بخلاف من اتصفوا بالصفات التسع (إلا المصلين الذين على صلاتهم دائمون……الآيات) فقد هذبتهم هذه الأعمال حتى استقامت قلوبهم وجوارحهم.
وكون هذه الصفات جِبلّية، ومطلوب من الإنسان أن يتخلص منها باكتساب الصفات الحميدة، هو جزء من التكليف.
فكون الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشرُّ جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا: لا يعني أن يستسلم لهذا الخلق؛ بل مطلوب منه المجاهدة على تحصيل الصبر والعطاء في آيات كثير كقوله تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) وقوله (وأنفقوا مما رزقناكم)
ولهذا نظائر كقوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشحَّ). ثم قال: (وَمَنْ يوق شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون). فأمر باتقاء الشح مع إحضاره إياه.
وقوله تعالى: (وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً). ثم نهى عن أكثر الجدال. انظر "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" للراغب الاصفهاني (ص93).
والله اعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب