سمعت أحد القراء يقول: إن معاني كلمة واحدة في القرآن لا حد لها؛ لأن القرآن صفة الله تعالى، وكما إن الله تعالى ليس له نهاية فصفته ليس لها نهاية، فهل هذا القول صحيح؟ وإن كان الجواب نعم، فكيف نوفق بين ذلك وبين الآيات المحكمات التي معناها مبين؟
أولًا:
القرآن الكريم آياته محكمة ومفصَّلة، قد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه معناه وموضع الحجة فيه على البشر، كما بيَّن لفظه، سواء.
"فإنه سبحانه وتعالى جعل القرآن نورًا وهدى، وبيانًا للناس، وشفاءً لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نُزِّل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"، انتهى من "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (6/361).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقوله تعالى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} فقد فصَّله بعد إحكامه؛ بخلاف من تكلم بكلام لم يُحْكِمه، وقد يكون في الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره؛ فهو سبحانه أحكم كتابه، ثم فصَّله وبيَّنه لعباده، كما قال: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} وقال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فهو سبحانه بيَّنه وأنزله على عباده بعلمٍ، ليس كمن يتكلَّم بلا علم"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (15/106).
ويقول أيضًا: "النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه القرآنَ؛ لفظَه ومعناه جميعًا، فإن البيان لا يحصل بدون هذا"، انتهى من "جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية" (ص11).
وقال ابن القيم: "فكما بلَّغ الرسول ألفاظ القرآن للأمة؛ بلَّغهم معانيه، بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظم من مجرد تبليغ ألفاظه، ولهذا وصل العلم بمعانيه إلى من لم يصل إليه حفظ ألفاظه، والنقل لتلك المعاني أشد تواترا وأقوى اضطرارًا، فإن حفظ المعنى أيسر من حفظ اللفظ، وكثير من الناس يعرف صورة المعنى ويحفظها، ولا يحفظ اللفظ، والذين نقلوا الدين عنه علموا مراده قطعًا، لما تلا عليهم من تلك الألفاظ"، انتهى من "الصواعق المرسلة" (2/636).
وهذا البيان يشمل معاني المحكم، ومعاني المتشابه، وهو الذي يشتبه على كثير من الناس أو بعضهم، ويعرفه الراسخون في العلم بردِّه إلى المحكم.
قال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى أن في القرآن آياتٍ محكماتٍ هن أم الكتاب؛ أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن ردَّ ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكَّم محكمَه على متشابهه عنده؛ فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، أي: أصله الذي يُرجَع إليه عند الاشتباه، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}، أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكَم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد"، انتهى من "تفسيره" (2/6).
ثانيًا:
المعنى المذكور في السؤال، قد ذكره بعض أهل العلم، ومعناه عندهم لا يتعارض مع قيام الحجة بالقرآن، ببلوغ معانيه ومواضع الحجة منه إلى الناس، لكن مرادهم بذلك: أنه لا مطمع في استقصاء فوائد القرآن وما أودعه الله فيه من دلائل وهدايات وعجائب ليس لها نهاية فهي لا تنقضي، وفوائد القرآن كثيرة عظيمة لا تقتصر على موضع الحجة الواجبة القائمة على الناس.
ويذكر بعض العلماء أنَّ استقصاء كل الفوائد القرآنية وفهمها وبلوغ آخرها؛ غيرُ ممكن، لأنها لا غاية ولا نهاية لها، كما أنه لا نهاية للمتكلم بالقرآن سبحانه وتعالى، وقد نُقل هذا المعنى عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله.
قال أبو الحسن الواحدي: "وكلٌّ ينفق مما رزقه الله، ويعمل على مقدار ما وفقه الله، ومتى يبلغ ضَعف سعينا وقاصر جهدنا نهاية ما لا يتناهى؟!
وهذا سهل بن عبد الله يقول: لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم؛ لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آية من كتابه، لأنه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أن ليس لله نهاية؛ فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وإنما يَفهم كلٌّ بمقدار ما يفتح الله على قلبه. وكلام الله غير مخلوق، ولا يبلغ إلى نهاية فهمه فهومٌ محدثةٌ مخلوقة"، انتهى من "التفسير البسيط" (1/394).
ويقول الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (2/155): "فهم كلام الله تعالى لا غايةَ له، كما لا نهايةَ للمتكلِّم به، فأمَّا الاستقصاءُ فلا مطمع فيه للبشر، ومن لم يكن له علمٌ وفهمٌ وتقوى وتدبُّر؛ لم يدرك من لذة القرآن شيئًا"، انتهى.
فمراد العلماء بذلك أنه لا يُستقصى ما أودعه الله تعالى في كتابه من أنواع البراهين، وصنوف الهداية وأسرارها، أي: لا يبلغ أحد الإحاطة بجميع ذلك حتى يبلغ النهاية فلا يبقى معنى إلا فهمَه وأدركَه.
وهذا لا يتعارض مع قيام الحجة، بفهم معانيه المحكمة المفصلة التي جعلها الله حجة على العباد، فليس لهم حجة على الله بعدها، لأن فهم الحجة هو أول الفهم وأصله، وهو المعنى المطابق للآية، ويبقى بعده كثير من الفوائد والأحكام والنكت والاستنباطات.
وهذا نحو قول العلماء عن القرآن: (لا تنقضي عجائبه)، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: (ولا تنقضي عجائبه)؛ لا تنقضي عجائبه لمن أعطاه الله تعالي فهمًا لكتابه، فإنه يتذوق فيه المعاني العظيمة الكثيرة، أما المعرض عنه فإنه قد لا يرى فيه عجبًا واحدًا، لكننا هنا نصف القرآن من حيث هو قرآن، بقطع النظر عن القارئ"، انتهى من "شرح مقدمة التفسير" لابن تيمية (ص12).
وقال ابن القيم: "والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر فهمُه على مجرد اللفظ؛ دون سياقه، ودون إيمائِه وإشارته وتنبيهِه واعتباره"، انتهى من "أعلام الموقعين" (2/188).
فإذا خرج الكلام في السؤال مخرج هذه المعاني المنقولة عن العلماء، فهو صحيح، وأما القرآن فكلماته وحروفه معدودة محددة، ومعانيه التي تقوم بها الحجة معلومة مبيَّنة، والحجة قائمة على العباد بالقرآن، لفظه ومعانيه، وكل ذلك منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق.
والله أعلم.