ما معنى قول ابن القيم :\”العلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال، فالعلم يتضمن الحياة ولوازم كمالها من القيومية والقدرة والبقاء والسمع والبصر وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام، والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل والرحمة والإحسان والجود والبر، ووضع الأشياء في مواضعها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال وإثبات الثواب والعقاب\”؟
ما المقصود من كون صفة (العلم والحكمة) متضمنة لجميع صفات الكمال؟
Question: 540035
Louanges à Allah et paix et bénédictions sur le Messager d'Allah et sa famille.
أولاً:
ذكر هذا ابن القيم رحمه الله في كتابه: "الرسالة التبوكية" (ص: 69).
بعد قوله: "وقوله {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} متضمن لإثبات صفة الحكمة والعلم، اللذين هما مصدر الخلق والأمر، فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته، وكذلك أمره وشرعه: مصدره عن علمه وحكمته".
وأراد ابن القيم رحمه الله أن يبين أن صفتي العلم والحكمة: تتضمنان جميع صفات الكمال لله تعالى.
وفي ذلك المعنى يقول الشيخ السعدي، رحمه الله: «{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} الذي أحاط علمه بظواهركم وبواطنكم، وهو الحكيم في جميع ما خلقه وحكم به، فلذلك شرع لكم من الأحكام، ما يعلم أنه موافق لمصالحكم، ومناسب لأحوالكم». انتهى، من " تفسير السعدي" (ص873).
وانظر: معنى دلالة التضمن، ودلالة الالتزام فتوى رقم: (401851).
ثانياً:
صفة العلم تتضمن صفة الحياة؛ إذ لا يمكن أن يتصف بالعلم، من لا حياة له.
وكونه عز وجل عليماً متصفاً بكمال العلم فيلزم منه الاتصاف بجميع لوازم كمال الحياة؛ من القيومية…الخ.
ثالثاً:
قوله: "وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام": هذه الجملة يحصل بها تفسير وبيان كلام المؤلف رحمه الله؛ والمعنى: أن القيومية والقدرة والبقاء والسمع والبصر هي من لوازم العلم التام؛ فمتى تقرر أنه "عليم"، وهي صيغة مبالغة من الاتصاف بالعلم؛ لزم من ذلك، ضرورةً: أن يكون قيُّوماً، سيمعاً، بصيراً.
"(القيوم): هو القائم بنفسه، وتقوم به جميع الموجودات، قال ابن القيم: "هو القائم بنفسه المقيم لغيره". انتهى من "بدائع الفوائد" (2/184)، "طريق الهجرتين" (ص: 44).
فكون الله عز وجل تقوم به جميع الموجودات، خلْقاً وانتظاماً وإتقاناً وتدبيراً؛ فهذا لا يكون إلا بعلم تام؛ قال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) الطلاق/ 12.
فالتدبير الكامل لا يتم إلا إذا كان الله محيطًا بكل تفاصيل الكون، عالمًا بما يحدث في كل لحظة، وما سيحدث في المستقبل، وما كان يمكن أن يحدث لو كانت الظروف مختلفة. فالله سبحانه وتعالى لا يدبر الكون بالعشوائية أو الصدفة، سبحانه وجل شانه، بل بعلم كامل يشمل كل شيء.
رابعاً:
صفة القدرة لله عز وجل تستلزم صفة العلم لله تعالى، حيث لا يمكن أن يتصور وجود كمال في القدرة، دون اقترانه بالعلم فالله: (عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة/284؛ قدرته عز وجل تشمل كل ما يعلم وما يريد، وقدرته المطلقة دليل على علمه الكامل.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في عدة مواضع من القرآن، يذكر ذلك عقيب ذكره الأجرام العلوية، وما تضمنه من فلق الإصباح، وجعل الليل سكنًا، وإجراء الشمس والقمر بحساب لا يعدوانه، وتزيين السماء الدنيا بالنجوم، وحراستها، وأخبر أن هذا التقدير المحكم المتقن صادر عن عزته وعلمه، ليس أمراً اتفاقياً لا يُمدح به فاعله، ولا يثنى عليه به، كسائر الأمور الاتفاقية" انتهى من "شفاء العليل" (ص: 200).
خامسا:
البقاء هنا يعني أن الله تعالى دائمُ الوجود، لا بداية له ولا نهاية، وهو أبدي. الله لا يموت ولا يزول، بل هو الحي الذي لا يفنى، كما قال الله تعالى: (وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ) الرحمن/27.
قال الخطابي رحمه الله: "البَاقِيْ: هُوَ الذِي لاَ تَعْترِضُ عَلَيهِ عَوَارِضُ الزوَالِ، وَهُوَ الذِي بَقَاؤه غيرُ مُتَنَاهٍ، وَلَا مَحْدُوْدٍ، … بَقَاؤهُ أزَليٌّ أبَدِيٌّ". انتهى من "شأن الدعاء" (ص/96).
والبقاء الأبدي لله تعالى يتطلب العلم التام بالوجود، وهذا العلم يشمل كل شيء في الكون، بما في ذلك مراحل الزمن، والتغيرات، والتفاعلات، والآثار المترتبة على كل شيء.
فإذا كان الله تعالى هو الحي الباقي، فإنه لابد أن يكون عالماً بكل ما هو لازم لبقاء الكون. فمن دون العلم، لا يمكن تصور وجود القدرة على الحفاظ على البقاء واستمرارية الكون.
سادساً:
صفتا السمع والبصر لله تعالى هما من لوازم العلم التام؛ إذ كيف يوصف بتمام العلم، لو كان في كونه: صوت لا يسمعه. أو يوصف بتمام العلم، لو كان في باطن الأرض، أو أعماق البحار: شيء لا يبصره؛ جل سبحانه من سميع، وسع سمعه الأصوات، بصير بكل شيء، لا يخفى عليه دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.
وتأمل ذلك السياق العجيب البديع، لهذه الآيات الكريمات، من سورة الأنعام:
(وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ * ﵟوَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ * وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۚ أَلَا لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَهُوَ أَسۡرَعُ ٱلۡحَٰسِبِينَ * قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ * قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنۡهَا وَمِن كُلِّ كَرۡبٖ ثُمَّ أَنتُمۡ تُشۡرِكُونَ * قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ) الأنعام/95-65.
وقال الله تعالى: ﴿أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ ما يَكونُ مِن نَجوى ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُم وَلا خَمسَةٍ إِلّا هُوَ سادِسُهُم وَلا أَدنى مِن ذلِكَ وَلا أَكثَرَ إِلّا هُوَ مَعَهُم أَينَ ما كانوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِما عَمِلوا يَومَ القِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾ [المجادلة: ٧]. ختم الآية بالعلم وقبلها قال: (ما يَكونُ مِن نَجوى ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُم…) في "تفسير القرطبي" (8/146): "فمعناه..أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين"، وذلك لعلمه تعالى بكل شيء. وانظر: "تفسير ابن كثير" (4/615)، "تفسير العثيمين" (2/387).
سابعاً:
"الحكمة: هي وضع الشيء في موضعه"انتهى "مدارج السالكين" (2/448).
والحكمة هي الباطن الذي يوجه الإرادة، كما أن الخبرة هي الباطن الذي يوجه العلم.
يقول ابن القيم رحمه الله: "نسبة الحكمة إلى الإرادة، كنسبة الخبرة إلى العلم؛ فالمراد ظاهر، والحكمة باطنة، والعلم ظاهر، والخبرة باطنة.
فكمال الإرادة: أن تكون واقعة على وجه الحكمة.
وكمال العلم: أن يكون كاشفاً عن الخبرة، فالخبرة باطن العلم، وكماله.
والحكمة: باطن الإرادة وكمالها". انتهى "بدائع الفوائد" (1/139).
ثامناً:
والعدل من مقتضيات الحكمة؛ فكلاهما وضع الشيء في موضعه.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهو سبحانه حكم عدل، لا يضع الشيء إلا في موضعه الذي يناسبه، ويقتضيه العدل والحكمة والمصلحة" انتهى "مختصر الصواعق المرسلة" (ص: 232).
قوله: "ووضع الأشياء في مواضعها على أحسن وجوهها" فهي حكمة الله ذاتها.
تاسعاً:
قوله: "والحكمة تتضمن كمال …الرحمة والإحسان والجود والبر".
فمن حكمته رحمته تعالى بالإنس والجن والحيوان: ألا يتم عيشهم إلا برحمة الله، وهذا عين الحكمة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري (6469)، ومسلم (2752)، واللفظ له.
قال الراغب الأصفهاني "الإحسان: أن يعطي أكثر مما عليه، ويأخذ أقل مما له" انتهى من "المفردات" (ص: 119).
وقال الطبري: "والبرّ: يعني: اللطيف بعباده". "تفسير الطبري" (21/591).
وقال الزجاج: "يُحْسِن إليهم، ويصلح أحوالهم". انتهى من "تفسير الأسماء" (ص/ 61)، وانظر: "شأن الدعاء" للخطابي(1/89).
قال ابن تيمية: "قال أهل العلم: الجواد في كلام العرب: معناه الكثير العطاء". انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (1/536).
فحكمة الله تستلزم إحسانه وبره وجوده وثوابه للمحسن؛ فكل هذه الصفات جاذبة ومرغبة لطاعة الله، باعثة لرجاء العبد تجاه ربه؛ قال ابن القيم رحمه الله: "فلولا الرجاء لما سار أحد. فإن الخوف وحده لا يحرك العبد. وإنما يحركه الحب. ويزعجه الخوف. ويحدوه الرجاء". انتهى من "مدارج السالكين" (2/51).
وكذلك من حكمة الله: العقاب لمن يستحقه، فإن العقاب باعث للخوف والبعد عما حرم الله.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء"انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/95).
وقال: "فما حفظت حدود الله ومحارمه, ووصل الواصلون إليه, بمثل خوفه ورجائه ومحبته ، فمتى خلا القلب من هذه الثلاث, فسد فساداً لا يُرجى صلاحه أبداً, ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه" انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/21).
فمن حكمة الله إحسانه وبره وجوده وثوابه وعقابه، فلولا هذه الأمور لكان من خلق الإنسان وإرسال الرسل عبثاً: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون/115.
قال ابن القيم رحمه الله: :"إن الله سبحانه إنما نفى عن نفسه ما يناقض الإثبات، ويضاد ثبوت الصفات والأفعال؛ فلم ينف إلا أمراً عدمياً، أو ما يستلزم العدم … ونفي العبث المستلزم لنفي كمال الحكمة والعلم". انتهى من "الصواعق المرسلة" (3/1023).
والله أعلم.
Avez-vous tiré profit de cette réponse?
Source:
موقع الإسلام سؤال وجواب
Réponses correspondantes