أريد أن أسال لكم عن قاعدتنا في العقيدة، وهي أن نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم.
على سبيل المثال نثبت لله الاستواء على ما يليق بجلاله، والمجيء على ما يليق بجلاله، والعين، واليد وما إلى ذلك، مما نثبت لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، هذه قاعدة عامة مجملة لم تقيد بأي قيد، لهذا السبب أما يجب علينا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه في كل كتابه مثل النفخ والروح والمعية، فنقول: إن لله معنا أين ما كنا على ما يليق بجلاله، معية حقيقية، وله روح على ما يليق بجلاله نفخه إلى مريم على ما يليق بجلاله، أستغفر الله العظيم، يعني خلاصة سؤالي:
لماذا نثبت في هذه الآيات، ولا نثبت في هذه الآيات؟
لأن قاعدتنا تلزمنا على إثباتها، فلماذا نثبت مرة ونأول مرة، والله تعالى وصف نفسه في كتابه بكليهما، أي مع الذي نثبته ونأوله، إذن إما يجب علينا أن نضع قيودا على هذه القاعدة وإما أن نغيرها، أرجو جوابا علميا وافيا كافيا.
أولا:
أهل السنة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات، وهذه قاعدة صحيحة، مبنية على وجوب الإيمان بما في الكتاب والسنة.
فنؤمن بجميع الصفات الواردة، ومنها معية الله تعالى الخاصة والعامة,
والخاصة: كمعيته لموسى وهارون عليهما السلام، كما قال تعالى: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) طه/46.
والعامة: التي لجميع لخلقه، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الحديد/4.
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) المجادلة/7.
والمعية تفيد مطلق المصاحبة، لا تقتضي اختلاطا ولا امتزاجا، فإننا نقول: سرنا والقمر معنا، ولا يقتضي ذلك حلول القمر فينا أو امتزاجه بنا.
ولهذا قال السلف: إنها معية العلم والإحاطة، أي معنا بعلمه وإحاطته.
وليس هذا تأويلا، بل هو عمل بالظاهر، والظاهر يُفهم من سياق النص، فإن آية المجادلة ابتدأها الله بالعلم، وختمها بالعلم، وكذلك آية الحديد نص فيها على العلم قبل ذكر المعية.
" قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله [أي أحمد بن حنبل] عن رجل قال: إن الله معنا، وتلا هذه الآية: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} قال أبو عبد الله: قد تجهّم هذا، يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) العلم معهم " انتهى من "الإبانة" لابن بطة (3/ 159).
ومراد الإمام أحمد رحمه الله بقوله: "قد تجهم هذا": نسبة قائل ذلك إلى مقالة الجهمية الحلولية، الذين يقولون: إن الله في كل مكان، بذاته.
وعلى فرض أن هذا يسمى تأويلا، فهو تأويل قد دل الدليل عليه، وهو الإجماع.
فقد أجمع السلف على تفسير المعية هنا بالعلم، كما حكاه ابن أبي شيبة، وابن بطة، وأبي عمرو الطلمنكي، وابن عبد البر، رحمه الله.
وينظر: "العرش" وما روي فيه، لابن أبي شيبة، ص 288، "العلو"، للذهبي، ص 246، "الأربعين في صفات رب العالمين"، له، ص 66، "التمهيد" (7/ 138).
قال ابن عبد البر رحمه الله: " علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التآويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله " انتهى.
ولو حملت المعية على المخالطة والحلول، لكان هذا باطلا من وجوه كثيرة منها:
الأول: ما في ذلك من النقص العظيم الذي ينزه عنه الملك القدوس؛ إذ معناه مخالطة الله للنفوس الشريرة، وحلوله في الأماكن المستقذرة.
الثاني: أن هذا يصادم عشرات النصوص الدالة على أن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وعلى هذا أجمع السلف والأئمة.
ولهذا كان القول بأن الله في مكان، أو أنه يحل في خلقه: كفرًا بالله عز وجل.
ثانيا:
ليس كل ما أضيف إلى الله تعالى يكون صفة له.
وقد قال الله تعالى: (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) الشمس/13، ولا يقول مسلم: إن الناقة صفة لله!
ولهذا قال أهل العلم إن المضاف إلى الله نوعان:
الأول: الأعيان التي تقوم بنفسها، كالناقة والبيت والعبد، فإذا أضيف إلى الله تعالى كان ذلك من إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة تفيد التشريف، كناقة الله، وبيت الله، وعبد الله.
والثاني: ما لا يقوم بنفسه، كالعلم والسمع والبصر والكلام، فإن أضيف الله، فهو من إضافة الصفة للموصوف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق، كقوله تعالى (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله) بل وكذلك روح الله عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم. ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره مثل كلام الله وعلم الله ويد الله ونحو ذلك كان صفة له " انتهى من "الجواب الصحيح" (4/ 414).
والروح جسم قائم بنفسه يدخل البدن ويخرج منه ويتبعه البصر عند خروجه، كما روى مسلم (920) : (إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ)؛ أي إذا خرجت الروح تبعها البصر ينظر إليها أين تذهب.
وفي حديث البراء بن عازب الطويل في وفاة الإنسان وخروج روحه، قال صلى الله عليه وسلم: (فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ " قَالَ: " فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ، يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا) الحديث، رواه أحمد (18534) وصححه شعيب الأرنؤوط في "تحقيق المسند".
فهذا يدل على أن الروح عين قائمة بنفسها.
فإذا قيل: المسيح روح الله، فهي روح مخلوقة أضيفت لله تعالى تشريفا.
وربما أشكل على بعض الناس قوله سبحانه: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) النساء/171 فظنوا كما ظنت النصارى أن (مِن) للتبعيض، وأن الروح جزء من الله. والحق أن (مِن ) هنا لابتداء الغاية، أي هذه الروح من عند الله، مبدأها ومنشأها من الله تعالى، فهو الخالق لها، والمتصرف فيها.
قال ابن كثير رحمه الله: "فقوله في الآية والحديث: (وروح منه)، كقوله: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)، أي من خلقه ومِنْ عنده، وليست (مِنْ) للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة، بل هي لابتداء الغاية، كما في الآية الأخرى، وقد قال مجاهد في قوله: (وروح منه) أي ورسول منه، وقال غيره: ومحبة منه. والأظهر الأول، وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة. وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: (هذه ناقة الله)، وفي قوله: (وطهر بيتي للطائفين)، وكما روي في الحديث الصحيح: "فأدخل على ربي في داره" أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد" انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/ 478).
وقال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: "وَتَمَسَّكَ مَنْ زَعَمَ بِأَنَّهَا [أي: الروح] قَدِيمَةٌ بِإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ونفخت فِيهِ من روحي). وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقَعُ عَلَى صِفَةٍ تَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَعَلَى مَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ، كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ؛ فَقَوْلُهُ: رُوحُ اللَّهِ، مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الثَّانِي، وَهِيَ إِضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ، وَهِيَ فَوْقَ الْإِضَافَةِ الْعَامَّةِ، الَّتِي بِمَعْنَى الْإِيجَادِ.
فَالْإِضَافَةُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: إِضَافَةُ إِيجَادٍ، وَإِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَإِضَافَةُ صِفَةٍ". انتهى، من "فتح الباري" (13/444).
وقال الألوسي رحمه الله: " ومن- متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح، وهي لابتداء الغاية مجازا، لا تبعيضية كما زعمت النصارى.
يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد، ناظر علي بن الحسين الواقدى المروزى ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية [أي قوله : (وروح منه)] فقرأ الواقدي قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السموات وما في والأرض جميعا منه)، فقال: إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا، فانقطع النصراني، فأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقدي بصلة فاخرة.
وقيل: سمي روحا؛ لأن الناس يحيون به، كما يحيون بالأرواح، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وقيل: الروح هنا بمعنى الرحمة كما في قوله تعالى: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة: 22] على وجه.
وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم عليها السلام بالبشارة، وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة، قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ، لا من النطفة، وصف بالروح. وقيل: أريد بالروح السر، كما يقال: روح هذه المسألة كذا، أي أنه عليه السلام سر من أسرار الله تعالى، وآية من آياته سبحانه. وقيل: المراد ذو روح، على حذف المضاف، أو استعمال الروح في معنى ذي الروح، والإضافة إلى الله تعالى للتشريف" انتهى من "تفسير الألوسي" (3/ 200).
وينظر جواب السؤال رقم: (508144)، ورقم: (532725).
ثالثا:
النفخ جاء مضافا إلى الله تعالى في شأن آدم، ومريم.
قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) الحجر/28-29.
وقال سبحانه: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء/91.
أما مريم: فإن الملك هو من تولى ذلك النفخ، كما قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) مريم/17-19.
فيكون النفخ هنا من الله إذنا، ومن الملك مباشرة.
وأما آدم عليه السلام، فظاهر النص أن الله نفخ فيه الروح، ويحتمل أن يكون ذلك أيضا بواسطة ملك، كما حصل لمريم.
قال ابن القيم رحمه الله: " فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {ونفخت فِيهِ من روحي} فأضاف النفخ إِلَى نَفسه، وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُبَاشرَة مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْله: (خلقتُ بيَدي)، وَلِهَذَا فرق بَينهمَا فِي الذّكر فِي الحَدِيث الصَّحِيح فِي قَوْله: (فَيَأْتُونَ آدم فَيَقُولُونَ أَنْت آدم أَبُو الْبشر، خلقك الله بِيَدِهِ، وَنفخ فِيك من روحه، وأسجد لَك مَلَائكَته، وعلمك أَسمَاء كل شَيْء)؛ فَذكرُوا لآدَم أَربع خَصَائِص اخْتصَّ بهَا عَن غَيره، وَلَو كَانَت الرّوح الَّتِي فِيهِ إِنَّمَا هِيَ من نفخة الْملك، لم يكن لَهُ خصيصة بذلك، وَكَانَ بِمَنْزِلَة الْمَسِيح، بل وَسَائِر أَوْلَاده، فَإِن الرّوح حصلت فيهم من نفخة الْملك، وَقد قَالَ تَعَالَى: {فَإِذا سويته ونفخت فِيهِ من روحي} فَهُوَ الَّذِي سواهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ الَّذِي نفخ فِيهِ من روحه.
قيل: هَذَا الْموضع الَّذِي أوجب لهَذِهِ الطَّائِفَة أَن قَالَت بقدم الرّوح، وَتوقف فِيهَا آخَرُونَ، وَلم يفهموا مُرَاد الْقُرْآن.
فَأَما الرّوح المضافة إِلَى الرب فَهِيَ روح مخلوقة، أضافها إِلَى نَفسه إِضَافَة تَخْصِيص وتشريف كَمَا بَينا.
وَأما النفخ: فقد قَالَ تَعَالَى فِي مَرْيَم: {الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا}، وَقد أخبر فِي مَوضِع آخر أَنه أرسل إِلَيْهَا الْملك، فَنفخ فِي فرجهَا، وَكَانَ النفخ مُضَافا إِلَى الله، أمرًا وإذنًا، وَإِلَى الرَّسُول مُبَاشرَة...
وَأما مَا اخْتصَّ بِهِ آدم، فَإِنَّهُ لم يخلق كخلقة الْمَسِيح من أم، وَلَا كخلقة سَائِر النَّوْع من أَب وَأم، وَلَا كَانَ الرّوح الَّذِي نفخ الله فِيهِ مِنْهُ هُوَ الْملك الَّذِي ينْفخ الرّوح فِي سَائِر أَوْلَاده، وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يكن لآدَم بِهِ اخْتِصَاص، وَإِنَّمَا ذكر فِي الحَدِيث مَا اخْتصَّ بِهِ على غَيره، وَهُوَ أَرْبَعَة أَشْيَاء: خلق الله لَهُ بِيَدِهِ، وَنفخ فِيهِ من روحه، وإسجاد مَلَائكَته لَهُ، وتعليمه أَسمَاء كل شَيْء. فنفخه فِيهِ من روحه يسْتَلْزم نافخا ونفخا ومنفوخا مِنْهُ، فالمنفوخ مِنْهُ هُوَ الرّوح المضافة إِلَى الله، فَمِنْهَا سرت النفخة فِي طِينَة آدم، وَالله تَعَالَى هُوَ الَّذِي نفخ فِي طينته من تِلْكَ الرّوح، هَذَا هُوَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ النَّص.
وَأما كَون النفخة بِمُبَاشَرَة مِنْهُ سُبْحَانَهُ كَمَا خلقه بِيَدِهِ، أَم إَنَّهَا حصلت بأَمْره كَمَا حصلت فِي مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام؟ فَهَذَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل.
وَالْفرق بَين خلق الله لَهُ بِيَدِهِ ونفخه فِيهِ من روحه: أَن الْيَد غير مخلوقة، وَالروح مخلوقة، والخلق فعل من أَفعَال الرب، وَأما النفخ: فَهَل هُوَ من أَفعاله الْقَائِمَة بِهِ، أَو هُوَ مفعول من مفعولاته الْقَائِمَة بِغَيْر الْمُنْفَصِلَة عَنهُ؟ فهَذَا مِمَّا يحْتَاج إِلَى دَلِيل.
وَهَذَا بِخِلَاف النفخ فِي فرج مَرْيَم فَإِنَّهُ مفعول من مفعولاته، وأضافه إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ وَأمره، فنفخه فِي آدم هَل هُوَ فعل لَهُ، أَو مفعول؟
وعَلى كل تَقْدِير: فالروح الَّذِي نفخ مِنْهَا فِي آدم، روح مخلوقة غير قديمَة" انتهى من "الروح"، ص154.
فالأمر في النفخ محتمل.
والحاصل:
أن قاعدة الصفات قاعدة صحيحة، فيما ثبت أنه صفة، لا في مطلق ما أضيف إلى الله تعالى، ثم الصفة كالمعية تفهم بحسب السياق وفي ضوء النصوص.
والله أعلم.