قد قرأت بالنسبة لآيات الصفات أن بعض الصالحين الأولين قالوا: إن \"تأويلها تلاوتها\"، فهل تصح هذه المقولة؟
أولا:
الواجب إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله من الصفات، من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تأويل ولا تعطيل، وعلى هذا اتفقت كلمة السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، فيثبتون لله تعالى سائر الصفات كالعلم، والسمع، والبصر، والكلام، والعلو، والاستواء، واليدين، والوجه، والنزول، والضحك، والفرح، وغير ذلك من صفاته، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، فلا يكيفون الصفات كما فعلت المشبهة، فقالت: يد كيد، ووجه كوجه، ولا يحرفون أو يؤولون كما فعلت المعطلة، فقالت: اليد القدرة، والاستواء الاستيلاء.
ثانيا:
جاء عن بعض السلف قولهم: تأويلها: تلاوتها. أو: تفسيرها: تلاوتها.
ومرادهم: أنه ليس لها تأويل يخالف ظاهرها.
قال الإمام معمر بن أحمد بن زياد الأصفهاني رحمه الله (ت418هـ) في وصية له: "ولما رأيت غربة السنة، وكثرة الحوادث واتباع الأهواء، أحببت أن أوصي أصحابي وسائر المسلمين بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من السلف المتقدمين، والبقية من المتأخرين.
فأقول وبالله التوفيق: إن السنة الرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله...
وأن الله عز وجل استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فالاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، والإيمان به واجب، والإنكار له كفر، وأنه جل جلاله مستو على عرشه بلا كيف، وأنه جل جلاله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، فلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من خلقه، الواحد الغني عن الخلق، علمه بكل مكان، ولا يخلو من علمه مكان، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تجنه البحور وما تكنه الصدور ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )، وأن الله عز وجل سميع بصير، عليم خبير، يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء، فيقول: هل من داع فاستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من نائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر".
إلى أن قال: "فهذه السنة التي اجتمعت عليها الأئمة، وهي مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأمر الله تبارك وتعالى".
ثم قال: "وأن السنة هي إتباع الأثر والحديث والسلامة والتسليم، والإيمان بصفات الله عز وجل من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تأويل.
فجميع ما ورد من الأحاديث في الصفات: مثل أن الله عز وجل خلق آدم على صورته، ويد الله على رأس المؤذنين، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأن الله عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، وسائر أحاديث الصفات: فما صح من أحاديث الصفات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتمع الأئمة على أن تفسيرها قراءتها. قالوا: أمروها كما جاءت.
وما ذكر الله في القرآن، مثل قوله عز وجل: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام )، وقوله عز وجل: ( وجاء ربك والملك صفاً صفاً ): كل ذلك ، بلا كيف، ولا تأويل؛ نؤمن بها إيمان أهل السلامة، والتسليم لأهل السنة.
والسلامة واسعة بحمد لله ومنه، وطلب السلامة في معرفة صفات الله عز وجل: أوجب وأولى، وأقمن وأحرى، فإنه ( ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير):
فـ(ليس كمثله شيء): ينفي كلَّ تشبيه وتمثيل.
(وهو السميع البصير): ينفي كل تعطيل وتأويل.
فهذا مذهب أهل السنة والجماعة والأثر، فمن فارق مذهبهم فارق السنة، ومن اقتدى بهم وافق السنة.
ونحن بحمد الله من المقتدين بهم، المنتحلين لمذهبهم، القائلين بفضلهم، جمع الله بيننا وبينهم في الدارين" رواها قوام السنة الأصفهاني في "الحجة في بيان المحجة" (1/247).
وقال الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: "قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ، وغير المهم، وما أبقوا ممكناً. وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلاً، وهي أهم الدين، فلو كان تأويلها سائغا، أو حتماً: لبادروا إليه.
فعُلم قطعاً: أن قراءتها، وإمرارها على ما جاءت: هو الحق، لا تفسير لها غير ذلك.
فنؤمن بذلك، ونسكت؛ اقتداء بالسلف، معتقدين أنها صفات لله تعالى استأثر الله بعلم حقائقها، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين" انتهى من "سير أعلام النبلاء" (10/506).
فتفسير نصوص الصفات: هو قراءتها، فليس لها معنىً يخالف ظاهرها.
ولهذا قال الذهبي أيضا في ترجمة مختصرة لأبي عبيد: "وقد ألف كتاب غريب الحديث، وما تعرض لأخبار الصفات بتفسير، بل عنده لا تفسير لذلك غير موضع الخطاب العربي" انتهى من "العلو"، ص173
والجهمية كانوا يستعملون لفظ التفسير والتأويل، ويزعمون أن لهذه الصفات معنىً باطناً، غير ما يظهر منها، فأبطل السلف تفسيراتهم وتأويلاتهم، وقالوا: تفسيرها قراءتها، أي ما يظهر منها، ويفهم من ألفاظها، رداً على الجهمية.
وقال الذهبي رحمه الله: "المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحداً سبقهم بها.
قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت، ولا تؤول، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد!!
فتفرع من هذا: أن الظاهر يُعني به أمران:
أحدهما: أنه لا تأويل لها غيرُ دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم، وكما قال سفيان وغيره: قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف، وهذا هو مذهب السلف، مع اتفاقهم أيضاً أنها لا تشبه صفات البشر بوجه؛ إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا في صفاته.
الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد؛ فإن الله تعالى فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق، ولكن ما لها مثل ولا نظير، فمن ذا الذي عاينه ونعته لنا، ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا كيف يسمع كلامه، والله إنا لعاجزون كالون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كل ليلة إذا توفاها بارئها، وكيف يرسلها، وكيف تستقل بعد الموت، وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله، وكيف حياة النبيين الآن، وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره قائماً، ثم رآه في السماء السادسة وحاوره، وأشار عليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته، وكيف ناظر موسى أباه آدم، وحجه آدم بالقدر السابق، وبأن اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه. وكذلك نعجز عن وصف هيأتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها، وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة، مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني!!
فالله أعلى، وأعظم، وله المثل الأعلى، والكمال المطلق، ولا مثل له أصلاً، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون" انتهى من "العلو للعلي الغفار"، ص251.
والحاصل:
أن قولهم: تأويلها تلاوتها؛ أي أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف، فلا يقال: اليد القدرة، أو الاستواء الاستيلاء. بل اليد: هي اليد، من غير أن تشبه بيد المخلوق، والاسستواء: هو العلو والارتفاع.
والله أعلم.