0 / 0

توجيه القراءات في قوله تعالى (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ)

السؤال: 543213

قرأتُ الآية (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) من سورة هود بقراءتين: (ٱمْرَأَتَكَ)، و (ٱمْرَأَتُكَ)، في “تفسير القرطبي”، و”الجلالين”، والطبري وابن كثير: في قراءة ٱمْرَأَتُكَ، أخذ لوط زوجته معه، لكنها التفتت، في قراءة ٱمْرَأَتَكَ، لم يأخذ لوط زوجته معه، ابن كثير يذكر وجهين دون أن يذكر القراءات.
هل هذا بسبب القراءات، أم اختلاف في التفسير، خاصة في حالة “امرأتَك”؟
وهل قراءة حفص هي الوحيدة الصحيحة، أم إن التفسير خاطئ، وأن الاختلاف لا يغيِّر المعنى سواء كانت بالضمة أو الفتحة؟
ترجمة “ٱمْرَأَتَكَ” لا تقول أنَّ لوطًا لم يأخذها، هل يعني ذلك أن (ٱمْرَأَتَكَ) مرتبطة بـ (إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ) وليس بـ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ؟
ألم يتم تدوين قواعد اللغة العربية بعد القرآن؟ فكيف تمَّ تطبيق القواعد التي جاءت بعد القرآن على تفسير آيات القرآن؟
في سورة الفاتحة “عليهِم” و”عليهُم” في نفس الموضع رغم اختلاف القراءات ونفس المعنى، هل يمكن أن تعني كلتا القراءتين نفس الشيء، لكن الاختلاف له علاقة باللهجة؟ هل من الممكن أنَّ كلا القراءتين تشير إلى أن لوطًا أخذ زوجته، لكنها التفتت وراءها، لكن ٱمْرَأَتَكَ تركز على مصيرها، وٱمْرَأَتُكَ تركز على عصيانها؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولاً:

اختلاف القراءات القرآنية، يقع على وجوه؛ فقد يخنلف اللفظ والمعنى، وقد يختلف اللفظ ويتفق المعنى، انظر: فتاوى رقم (395192)، (128658)، (323914).

وانظر: كتاب: حديث الأحرف السبعة، د. عبد العزيز القاريء.

ثانياً:

نزل القرآن (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء/ 195]، وأئمة اللغة العربية يحتجون بالقرآن، قال السيوطي رحمه الله في “الاقتراح في أصول النحو” (ص: 39): “أما القرآن فكل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية , سواء كان متواتراً , أو آحاداً , أم شاذاً.

وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياساً معلوماً , بل ولو خالفته، يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه , وإن لم يجز القياس عليه , كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس، في ذلك الوارد بعينه , ولا يقاس عليه , نحو: استحوذ , ويأبى.

وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافاً بين النحاة , وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه” انتهى.

ثالثاً:

قولُه تعالى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا امْرَأَتَكَ):

قُرِئَ (امْرَأَتَكَ) بالنَّصبِ والرَّفعِ، وكلاهما قراءتان متواترتان صحيحتان؛ فقد قرأ ابن كثير وأبو عَمرو بالرفع، والباقون(الجمهور) بالنصب، انظر: “التيسير في القراءات السبع” لأبي عمرو الداني (ص: 125).

1.    أمَّا النَّصبُ، ففيه اتجاهان لأئمة اللغة:

الاتجاه الأول: أن الاستثناء متصل؛ فيكون مُستثنًى مِن (أهلك) في قَولِه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، والمعنى: لا تَسْرِ بها. وجُملةُ (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) مُعتَرِضةٌ بين المُستثنَى والمُستثنَى منه.

الاتجاه الثاني: أن الاستثناء منقطع؛ والمعنى: فأسر بأهلك، ولا يلتفت منهم أحد. لكن امرأتَك فإنه مصيبها ما أصابهم.

قال أبو شامة رحمه الله (ت 665هـ): “والذي يظهر لي: أن الاستثناء على القراءتين منقطع، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها، بمعنى: لكن امرأتك يجري لها كيت وكيت.

والدليل على صحة هذا المعنى: أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناءٌ أصلاً فقال تعالى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)” انتهى من “إبراز المعاني من حرز الأماني” (ص: 520).

2.    وأما على قراءة الرفع (امْرَأَتُكَ)، فاختلفت اتجاه العلماء في فهمها وإعرابها:

الاتجاه الأول: أن الاستثناء متصل فتكون (امْرَأَتُكَ) بدلٌ مِن (أَحَدٌ) الواقِعُ في سياقِ النَّهيِ وَلَا يَلْتَفِتْ، وهو في معنى النَّفيِ، كما في “التحرير والتنوير” (12/133).

الاتجاه الثاني: أن الاستثناء منقطع؛ والرَّفعُ على أَنَّ (امْرَأَتُكَ) مبتدأٌ، و(إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) جملةُ الخَبَر، وجملةُ المبتدأِ وخبَرِه في محلِّ نَصبٍ على الاستثناءِ المُنقَطِع.

وممن قال إن الاستثناء منقطع: أبو شامة، كما تقدم، وابن القيم في “بدائع الفوائد” (3/937).

قال ابن هشام رحمه الله: “.. الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع، بِدَلِيل سُقُوطه فِي آيَة الْحجر، وَلِأَن المُرَاد بالأهل: الْمُؤْمِنُونَ وان لم يَكُونُوا من أهل بَيته؛ لَا أهل بَيته وَإِن لم يَكُونُوا مُؤمنين. وَيُؤَيِّدهُ مَا جَاءَ فِي ابْن نوح عَلَيْهِ السَّلَام (يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود: 46].

وَوجه الرّفْع: أَنه على الِابْتِدَاء، وَمَا بعده الْخَبَر، والمستثنى: الْجُمْلَة. وَنَظِيره: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ(22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [الغاشية: 22].

وَاخْتَارَ أَبُو شامة مَا اخترته؛ من أَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع، وَلكنه قَالَ: “وَجَاء النصب على اللُّغَة الحجازية، وَالرَّفْع على التميمية. وَهَذَا يدل على أَنه جعل الِاسْتِثْنَاء من جملَة النَّهْي.

وَمَا قَدمته: أولى؛ لضعف اللُّغَة التميمية. وَلما قدمت من سُقُوط جملَة النَّهْي فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود حَكَاهَا أَبُو عُبَيْدَة وَغَيره” انتهى.

وفي “إعراب القرآن” للنحاس (ت: 338هـ) (2/179): “والمعنى: فأسر بأهلك إلّا امرأتك، وقد قال جلّ وعزّ(كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (الأعراف/ 83): أي من الباقين لم يخرج بها. وإن كان قد قيل فيه غير هذا.

ويدل أيضا على النصب: أنه في قراءة عبد الله بن مسعود (فأسر بأهلك إلا امرأتك)”.انتهى.

وقال الزمخشري في “الكشاف” (2/416): “وفي إخراجها مع أهله روايتان: روى أنه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدّة العذاب، التفتت، وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر، فقتلها.

وروى أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فإن هواها إليهم، فلم يسر بها.

واختلاف القراءتين، لاختلاف الروايتين” انتهى.

واعترض عليه أبو حيان بأنه يستلزم التناقض بين القراءتين؛ فإن المرأة تكون مسرياً بها على قراءة الرفع، وغير مسري بها على قراءة النصب؛ فقال رحمه الله: “وهذا وهم فاحش؛ إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سرى بها، أو أنه لم يسر بها، وهذا تكاذب في الأخبار يستحيل أن تكون القراءتان، وهُما من كلام الله، تترتبان على التكاذب” انتهى من “البحر المحيط” (6/190).

ولأنصار الزمخشري أجوبة، منها ما قاله السمين الحلبي: “ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنه قد جاء في التفسير القولان، ولا يَلْزم من ذلك التكاذبُ، لأنَّ مَنْ قال إنه سرى بها يعني أنها سَرَتْ هي بنفسها، مصاحِبةً لهم في أوائل الأمر، ثم أخذها العذاب، فانقطع سُراها.

ومن قال إنه لم يَسْرِ بها، أي: ” انتهى من “الدر المصون” (6/368).

وقد فنّد ابن هشام إعراب الزمخشري، وقال: “إنه خلاف الظاهر”. وأسهب في الحديث عن هذا الاستثناء. انظر: “مغني اللبيب” (ص: 780).

وقال العلامة اللغوي المفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: “قرأه جمهور القراء (إلا امرأتَك)، بالنصب، وعليه فالأمر واضح; لأنه استثناء من الأهل، أي أسر بأهلك؛ إلا امرأتك فلا تسر بها، واتركها في قومها، فإنها هالكة معهم.

ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع: (كانت من الغابرين)، والغابر: الباقي، أي من الباقين في الهلاك.

وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: إلا امرأتك بالرفع على أنه بدل من أحد، وعليه فالمعنى: أنه أمر لوطا أن ينهى جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته، فإنه أوحي إليه أنها هالكة لا محالة، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات، لكونها من جملة الهالكين.

وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها، وظاهر قراءة أبي عمرو، وابن كثير: أنه أسرى بها والتفتت فهلكت.

قال بعض العلماء: لما سمعت هدة العذاب، التفتت، وقالت: واقوماه، فأدركها حجر فقتلها.

قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين: أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله: هو النجاة من العذاب الواقع صبحا بقوم لوط، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة، فنتيجة إسراء لوط بأهله، لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين، وما لا فائدة فيه، كالعدم، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلا، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين.

فمعنى القولين: راجع إلى أنها هالكة، وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله، فلا فرق بين كونها بقيت معهم، أو خرجت وأصابها ما أصابهم.

فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب، فهي ومن لم يسر معه سواء، والعلم عند الله تعالى” انتهى. وانظر: فتوى رقم: (259246).

وللاستزادة انظر: “مشكل إعراب القرآن” لمكي (1/371)، “الدر المصون” (6/ 365)

والأقوى والله أعلم أن الاستثناء منقطع، فأفضل ما يفسر القرآن بالقرآن:

1.    قال الله تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [الأعراف/ 83]: أي من الباقين لم يخرج بها، كما قال النحاس رحمه الله.

2.    وقال تعالى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) [الحجر: 65]، وليس فيها استثناءٌ البتةَ. ولم يثبت أنها سَرَت معهم.

قال ابن القيم رحمه الله: “وقيل: إنّ من هذا-الاستثناء العملي المنقطع- قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81] في قراءة الرفع ، ويكون “امرأتُك” مبتدأ وخبره ما بعده.

وهذا التوجيهُ أولى من أن يجعلَ الاستثناء في قراءة من نَصَبَ من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}، وفي قراءة من رفع من قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}، ويكون الاستثناءُ على هذا من: “فَأَسرِ بأهْلِكَ “، رفعًا ونصبًا.

وإنما قلنا: إنه أوْلى؛ لأنَّ المعنى عليه، فإن الله تعالى أمرَه أن يَسْرِيَ بأهلِه؛ إلا امرأته.

ولو كان الاستثناء من الالتفات؛ لكان قد نهى المُسْرَى بهم عن الالتفات، وأذِنَ فيه لامرأته، وهذا ممتنعٌ لوجهين:

أحدُهما: أنه لم يأمرْه أن يَسْرِيَ بامرأتِهِ، ولا دخلت في أهله الذين وُعِد بنجاتهم.

والثاني: أنه لم يكَلِّفْهُمْ بعدم الالتفات، ويأذَنَ فيه للمرأة. ” انتهى من “بدائع الفوائد” (3/937).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android