في العديد من الآيات الأخرى يخبرنا الله تعالى أن القرآن وآيات القرآن واضحة ومفصلة، فإذا كانت الآيات واضحة ومفصلة لنا، فلماذا هناك بعض الآيات التي لا يعلم معناها إلا الله تعالى؟ أيضًا، وفي بعض الأحيان، قد يكون هناك اختلاف بين العلماء حول ما تعنيه بعض الآيات.
أولا:
حتى يزول الإشكال: لا بد أن نعلم أن الله تعالى تارة يصف القرآن بأن كله محكم، وتارة يصفه بأن بعضه محكم. فمعنى الإحكام في الأول يختلف عن معناه في الثاني.
وقد أجاب عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في “التدمرية” (ص: 102)، وهذبه وأضاف عليه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في “تقريب التدمرية” (ص: 78)، فقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“اعلم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه محكم، وبأنه متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه.
فالأول كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان: 2] .
والثاني كقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23] .
والثالث كقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] .
– فالإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو: الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فألفاظ القرآن كله في أكمل البيان والفصاحة والبلاغة، ومعانيه أكمل المعاني وأجلها وأنفعها للخلق حيث تتضمن كمال الصدق في الأخبار، وكمال الرشد والعدل في الأحكام، كما قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] .
– والتشابه الذي وصف به جميع القرآن هو: تشابه القرآن في الكمال والإتقان والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار، كما قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] .
– والإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو: الوضوح والظهور بحيث يكون معناه واضحاً بيناً، لا يشتبه على أحد، وهذا كثير في الأخبار والأحكام.
مثاله في الأخبار قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. فكل أحد يعرف شهر رمضان، وكل أحد يعرف القرآن.
ومثاله في الأحكام قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] . فكل أحد يعرف والديه، وكل أحد يعرف الإحسان.
– وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو: الاشتباه؛ أي خفاء المعنى، بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم، فيعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم.
* موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيفية الجمع بينها:
موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيف نجمع بينها أن نقول:
– إن وصف القرآن جميعه بالإحكام، ووصفه جميعه بالتشابه: لا يتعارضان.
والجمع بينهما: أن الكلام المحكم المتقن، يشبه بعضه بعضاً في الكمال والصدق، فلا يتناقض في أحكامه، ولا يتكاذب في أخباره.
– وأما وصف القرآن بأن بعضه محكم، وبعضه متشابه: فلا تعارض بينهما أصلاً؛ لأن كل وصف واردٌ على محل لم يرد عليه الآخر، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى، وبعضه متشابه خفي المعنى.
وقد انقسم الناس في ذلك إلى قسمين:
فالراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وإذا كان من عنده، فلن يكون فيه اشتباه يستلزم ضلالاً، أو تناقضاً، ويردون المتشابه إلى المحكم فصار مآل المتشابه إلى الإحكام.
وأما أهل الضلال والزيغ: فاتبعوا المتشابه، وجعلوه مثاراً للشك والتشكيك؛ فضلوا، وأضلوا، وتوهموا بهذا المتشابه، ما لا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله…
ثانيا:
التشابه الواقع في القرآن نوعان: حقيقي، ونسبي:
– فالحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، مثل: حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا – وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار – لا نعلم حقائقها وكنهها، كما قال الله تعالى عن نفسه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] . وقال: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] . وقال عما في اليوم الآخر: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
وفي الحديث القدسي الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
فما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير … ونحو ذلك.
ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه الأسماء من الصفات، ليس مماثلاً في الحقيقة لما للمخلوق منها، فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله.
كما نعلم أن في الجنة لحماً، ولبناً، وعسلاً، وماء، وخمراً … ونحو ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من جنب ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى.
والإخبار عن الغائب لا يُفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب، بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد.
وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله: لا يُسأل عنه، لتعذر الوصول إليه.
– وأما النسبي؛ فهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم والإيمان، ما يخفى على غيرهم، إما لنقص في علمهم، أو تقصير في طلبهم، أو قصور في فهمهم، أو سوء في قصدهم.
وهذا النوع يُسأل عن بيانه، لأنه يمكن الوصول إليه، إذ ليس في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، كيف وقد قال الله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] . وقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18-19] . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء: 174]. وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] .
ولهذا النوع أمثلة كثيرة في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الحكمية، وغالب المسائل التي اختلف الناس فيها أوكلها من هذا النوع.
فمن أمثلة ذلك في المسائل العلمية الخبرية: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. حيث اشتبه على النفاة أهل التعطيل ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى، ظناً منهم أن إثباتها يستلزم مماثلة الله تعالى للمخلوقين؛ فنفوا عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو بعضه، وأعرضوا عن الأدلة السمعية والعقلية الدالة على ثبوت صفات الكمال لله عز وجل، وغفلوا عن كون الاشتراك في أصل المعنى لا يستلزم المماثلة في الحقيقة.
ثم لو أمعنوا في النظر في هذا المنفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، لتبين لهم أنه يدل على ثبوت الصفات لا على انتفائها، لأن نفي المماثلة يدل على ثبوت أصل المعنى، لكن لكماله تعالى لا يماثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولولا ثبوت أصل الصفة، لم يكن لنفي المثل فائدة.
ومن أمثلة ذلك في المسائل العملية الحكمية: قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)؛ حيث اشتبه على بعض الناس ففهموا منه أنه شامل للكمية والكيفية، وبنوا على ذلك أنه لا تجوز الزيادة في صلاة الليل على العدد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به، فلا يزاد في التراويح في رمضان على إحدى عشرة، أو ثلاثة عشرة ركعة.
ولكن من تأمل الحديث: وجده دالاً على الكيفية فقط دون الكمية، إلا أن تكون الكمية في ضمن الكيفية، كعدد الصلاة الواحدة.
ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: “مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى”. وفي رواية: أن السائل قال: كيف صلاة الليل؟ ولو كان عدد قيام الليل محصوراً، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السائل.
ولهذا؛ كان الراجح أن يقتصر في قيام الليل على إحدى عشرة أو ثلاثة عشرة. وإن زاد على ذلك؛ فلا بأس.
وأمثلة ذلك كثيرة، تعلم من كتب الفقه المعنية بذكر الخلاف والترجيح بين الأقوال. والله المستعان” انتهى.
وقال في “تقريب التدمرية” (ص: 71): “فإن قلت: ما الجواب عن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] ، فإن هذا يقتضي أن في القرآن آيات متشابهات لا يعلم تأويلهن إلا الله؟!
قلنا: الجواب أن للسلف في الوقف في هذه الآية قولين:
أحدهما: الوقف عند قوله: {إلا الله} وهو قول جمهور السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، لا التفسير الذي هو بيان المعنى. فتأويل آيات الصفات – على هذا – هو حقيقة تلك الصفات وكنهها، وهذا من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل ولم يرد بها السمع فلا يعلمها إلا الله.
الثاني: الوصل؛ فلا يقفون على قوله: {إلا الله} وهو قول جماعة من السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]: التفسير الذي هو بيان المعنى. وهذا معلوم للراسخين في العلم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله”. وقال مجاهد: “عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية، وأسأله عن تفسيرها؟ “.
وبهذا تبين أن الآية لا تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم معناه إلا الله تعالى، وإنما تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله، على قراءة الوقف، وتدل على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل.
وعلى هذا؛ فلا تعارض مع ما ذكرناه من أنه ليس في القرآن شيء لا يعلم معناه. “انتهى.
وانظر: فتوى رقم: (103146)، (326555).
والله أعلم.