هل ما زال الجن يسترقون السمع ويرجعون للساحر بما سمعوه؟ هل هناك شيء ينفي أو يثبت ذلك من الكتاب والسنة؟
أولاً:
ثبت بصريح الكتاب والسنة أنّ الجن كانوا يسترقون السمع وأنّ لهم مقاعد يقعدونها ليستمعوا الوحي من قول الملائكة حتى نزول الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه فمنعوا من ذلك ولم يعد لهم مقاعد للسمع وحرست السماء منهم بالشهب.
قال الله تعالى: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) الجن/ 8-9.
قال القرطبي رحمه الله:
(منها): أي من السماء، ومقاعد: مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها..، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا يعني بالشهاب: الكوكب المحرق، وقد تقدم بيان ذلك.
وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين، ورموا بالشهب. وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء، ورميت الشياطين بالشهب" انتهى من "تفسير القرطبي" باختصار (19/ 12).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: " كَانَ الجِنُّ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ الوَحْيَ، فَإِذَا سَمِعُوا الكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، فَأَمَّا الكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًّا، وَأَمَّا مَا زَادُوهُ فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ، وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الأَرْضِ، فَبَعَثَ جُنُودَهُ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْنِ أُرَاهُ قَالَ: بِمَكَّةَ، فَلَقُوهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ ". رواه الترمذي (3324) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وصححه الالباني.
وهذا النصوص صريحة أنهم كانوا يستمعون ثم منعوا عن مقاعدهم من السمع عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ من أراد الاستماع قُذف بالشهب.
ثانياً:
أما هل لا زالوا يسترقون السمع بعد البعثة النبوية؟ فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال.
القول الأول: أنّ استراق السمع توقف بعد البعثة تماما إلى الأبد.
القول الثاني: أنه لم يتوقف بعد البعثة مطلقاً، ولكن الشياطين لا تُمكن منه إلا يسيرا (إلا من خطف الخطفة).
القول الثالث: أنّ استراق السمع توقف مطلقاً مدة البعثة ثم عاد ولكن الشياطين لا تُمكن منه إلا يسيرا (إلا من خطف الخطفة).
قال الماوردي رحمه الله:
"فأما استراقهم للسمع بعد بعث الرسول فقد اختلف فيه أهل العلم على قولين:
أحدهما: أنه زال استراقهم للسمع، ولذلك زالت الكهانة.
والثاني: أن استراقهم باق بعد بعث الرسول، وكان قبل الرسول لا تأخذهم الشهب، لقول الله تعالى: (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)" انتهى من "أعلام النبوة للماوردي" (ص167).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"اختلف العلماء: هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد؟ أو انقطعوا في وقته فقط؟
والثاني: هو الأقرب؛ أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا" انتهى من "القول المفيد على كتاب التوحيد" (1/ 315):
وقال الشيخ السعدي رحمه الله – عند تفسيره لقوله تعالى (إلا من خطف الخطفة):
"لولا أنه – تعالى – استثنى، لكان ذلك دليلاً على أنهم لا يستمعون شيئا أصلاً، ولكن قال: (إلا من خطف الخطفة) أي: إلا من تلقف من الشياطين المردة الكلمة الواحدة، على وجه الخفية والسرقة".
وأظهر الأقوال في ذلك، والله أعلم: أنّ استراق السمع لا يزال موجوداً بعد البعثة النبوية، ولكن من يسترق منهم، يُقذفون بالشهب، فربما أدركوا الكلمة الواحدة ونحوها، وربما أدركتهم الشهب قبل إدراكهم. قال ابن كثير، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: (إلا من خطف الخطفة):
"أي: إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء، فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها بقَدَر الله قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، كما تقدم في الحديث، ولهذا قال: {إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} أي: مستنير" انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/ 6).
وفي الحديث عن أبي هريرة أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ على صفوان، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – ووصف سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا: يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء) رواه البخاري (4522).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، مقررا أنّ حصول استراق السمع باق بعد البعثة:
"وقد قال عمر لغيلان بن سلمة، لما طلق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق السمع سمعت بأنك ستموت، فألقت إليك ذلك. الحديث، أخرجه عبد الرزاق وغيره. فهذا ظاهر في أن استراقهم السمع استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقصدون استماع الشيء مما يحدث، فلا يصلون إلى ذلك، إلا إن اختطف أحدهم بخفة حركته خطفة، فيتبعه الشهاب؛ فإن أصابه قبل أن يلقيها لأصحابه فاتت؛ وإلا سمعوها وتداولوها" انتهى من "فتح الباري" لابن حجر (8/ 673).
والله أعلم.