ما صحة هذه القراءة لسورة العصر، (والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه فيه إلى آخر الدهر....)؟
أولًا:
لم تثبت هذه القراءة بإسناد صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك: لم تثبت كتابةً في المصحف الذي بأيدي المسلمين، المتفق على كلماته وحروفه منذ العصر الأول.
وهذان الشرطان: صحة الإسناد، مع شهرته واستفاضته، و: الثبوت في رسم المصحف؛ ركنان لثبوت القراءة وعدّها قرآنًا، بإجماع المسلمين، بل عامة العلماء ينصون على وجوب التواتر مع صحة السند، لا مجرد الاستفاضة والشهرة.
قال ابن الجزري في شرح شرط (صحة السند) للقراءة: "وقولنا (وصحَّ سندُها): فإنا نعني به أن يروي تلك القراءةَ العدلُ الضابطُ، عن مثله، كذا حتى تنتهي، وتكون مع ذلك: مشهورةً عند أئمة هذا الشأن الضابطين له، غير معدودة عندهم من الغلط، أو مما شذ بها بعضهم"، انتهى من "النشر" (1/ 12).
وينظر جواب السؤال: (279104).
بل كذلك يشترط صحة السند في القراءة الشاذة، ثم يُحكم بشذوذها لعدم تواترها، ولا شهرتها واستفاضتها، أو لعدم ثبوتها مكتوبةً في المصحف، كما قال ابن الجزري:
"ما وافق العربية وصحَّ سندُه، وخالفَ الرسم كما ورد في (الصحيح) من زيادة ونقصٍ، وإبدال كلمة بأخرى، ونحو ذلك مما جاء عن أبي الدرداء، وعمر، وابن مسعود، وغيرهم، فهذه القراءات تسمى اليوم: (شاذة)؛ لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه، وإن كان إسنادها صحيحًا، فلا تجوز القراءة بها، لا في الصلاة، ولا في غيرها.
قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر في كتابه "التمهيد": وقد قال مالكٌ: إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة، مما يخالف المصحف؛ لم يُصلَّ وراءَه، وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك، إلا قوما شذُّوا لا يعرَّج عليهم"، انتهى من "منجد المقرئين" (ص82)، والذي نقله عن ابن عبد البر تراه في "التمهيد" (8/ 293).
وقال الإمام مكي بن أبي طالب عن القراءة التي صحَّ سندها، لكن؛ خالفت رسم وخطَّ المصحف:
"ما صحَّ نقله عن الآحاد، وصحَّ وجهه في العربية، وخالف لفظُه خطَّ المصحف: فهذا يُقبل ولا يقرأ به؛ لعلَّتين؛ إحداهما: أنه لم يؤخذ بإجماعٍ، إنما أُخذ بأخبار الآحاد، ولا يثبت قرآن يُقرَأ به بخبر الواحد، والعلة الثانية: أنه مخالف لما قد أُجمِع عليه؛ فلا يقطع على مغيبه وصحته، وما لم يقطع على صحته لا يجوز القراءة به، ولا يكفر من جحده، ولبئس ما صنع إذا جحده"، انتهى من "النشر" (1/ 12)، وأقرَّه ابن الجزري.
وقال أبو إسحق الزجاج: "ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمَعٌ عليه؛ فيخالَف، لأنَّ اتباع المصحف أصل اتباع السنة"، انتهى من "معاني القرآن وإعرابه" (1/ 127).
وقال أيضًا ذاكرًا قراءة (القيِّم) بدلا من الْقَيُّومُ، من الآية الثانية من سورة آل عمران:
"وقد رويت (الْقَيِّمُ)، والذي ينبغي أنْ يُقرأ: ما عليه المصحف، وهو الْقَيُّومُ بالواو، والقيِّمُ أيضًا جيد، بالغ، كثير في العربية، ولكن القراءَةَ بخلاف ما في المصحف لا تجوز، لأن المصحفَ مجمع عليه، ولا يعارض الإجماع بروايةٍ لا يُعلَم كيف صحتُها"، انتهى من الكتاب نفسه (1/ 374).
والمقصود هنا: أن صحة السند، مع صحة المعنى، مع صحة المبنى اللغوي، لا يكفي اجتماع هذه الثلاثة للحكم بصحة القراءة، فلا بد من: استفاضة السند الصحيح، أو تواتره، وموافقة خط المصحف ورسمه، وموافقة لغة العرب، وهذا عمل المسلمين كلهم منذ العصر الأول.
ثانيًا:
"والعصر، ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر"، هذه القراءة فقدَت ركنين من أركان إثبات القرآن، وهما: استفاضة أو تواتر الإسناد الصحيح؛ وموافقة رسم المصحف.
فأما مخالفتها لرسم المصحف: فظاهر، فإنها ليست من رسم المصحف، وهذا كاف للقطع بشذوذها، وعدم جواز القراءة بها، لا في الصلاة ولا خارجها، كما سبق شرحه.
وأما الراواية: فقد رويت عن عليِّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ولم يصح الإسناد إلى أيٍّ منهما.
1- فأما عن علي بن أبي طالب:
فيرويه: أبو إسحق السبيعي، عن عمرو ذي مرّ، عنه رضي الله عنه.
رواه أبو نعيم الفضل بن دكين في "فضائل القرآن" (ص318) قال: "حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عمرو ذي مر، عن عليٍّ أنه قرأ: (والعصر، ونوائب الدهر، لقد خلقنا الإنسان لِخُسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر)" انتهى.
ورواه الطبري في "التفسير" (24/ 613) من طريق أبي نعيم أيضًا، لكن، على لون آخر، سندًا ومتنًا فقال:
"حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عمرو ذي مر، قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقرأ هذا الحرف: (والعصر ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر)"، انتهى.
هكذا عند الطبري بلفظ (إن الإنسان لفي خسر) بدلًا من (لقد خلقنا الإنسان لِخُسر)، وأيضًأ: بإسقاط إسماعيل بن جعفر، الواسطة بين أبي نعيم وإسرائيل في رواية كتاب "الفضائل".
وكلٌّ من إسماعيل، وإسرائيل: من مشاهير مشايخ الفضل بن دكين، وشيخُ الطبري (عبد الأعلى بن واصل)؛ متفق على توثيقه، فالله أعلم بأصل هذا الخلاف!
ورواه الحاكم في "المستدرك" (2/ 582) قال: "أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، ثنا أحمد بن مهران، ثنا عبيد الله بن موسى، أبنا إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عمرو ذي مر، عن علي رضي الله عنه أنه: "قرأ: والعصر، ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر"، انتهى.
فقصَّر الحاكم لفظه، فلم يذكر آخر فقرة منه، كما ترى.
وأما علة هذا الإسناد؛ فهي جهالة (عمرو ذي مرٍّ) الذي تفرد به عن علي بن أبي طالب، فإنه مجهول، لا يروي عنه إلا أبو إسحق السبيعي، المشهور بشيوخ مجاهيل.
قال البخاري في ترجمة عمروٍ هذا من "التاريخ الكبير" (6/ 229): "روى عنه أبو إسحق الهمداني وحده، لا يُعرَف". انتهى.
ومثل ذلك قال أبو حاتم، كما في "الجرح والتعديل" (6/ 232).
وقال ابن عدي في "الكامل" (6/ 243): "هو من جملة مشايخ أبى إسحق المجهولين الذين لا يحدِّث عنهم غير أبي إسحق، فإن لأبي إسحاق غيرُ شيخ يحدث عنه؛ لا يُعرف". انتهى.
وذكر ابن حبان شأن جهالته أيضًا، وزاد فقال في "المجروحين" (2/67): "في حديثه المناكير الكثيرة التي لا تشبه حديث الأثبات، حتى خرج بها عن حد الاحتجاج به إذا انفرد، على قلة روايته"، انتهى.
فالمقصود: أن اللفظ مختلِف، مع اتحاد المخرج، والإسناد ضعيف، فلا يثبت هذا عن علي رضي الله عنه.
ومع ذلك قال الحاكم رحمه الله بعد روايته: "صحيح الإسناد"، دون جوابٍ عن حال عمرٍو هذا، ولا عن اختلاف لفظه، فهذا أحد الأدلة الكثيرة على تساهله رحمه الله في كتاب "المستدرك".
قال الذهبي رحمه الله في "ميزان الاعتدال" (3/ 608) في ترجمة الحاكم: "إمام صدوق، لكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة، ويُكثر من ذلك"، انتهى.
وذكر الحافظ ابن كثير أن في كتاب المستدرك للحاكم أحاديث صحيحة وحسنة وضعيفة وموضوعة، كما في "اختصار علوم الحديث" (ص29 – مع الباعث الحثيث)، ولذلك قال بدر الدين ابن جماعة عن صواب التعامل مع أحاديث المستدرك: "الصواب أنه يُتتبع، ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن، أو الصحة، أو الضعف"، انتهى من "تدريب الراوي" (1/ 113).
وفي جميع الأحوال: فصحة الإسناد – وليس هو بصحيح – لن تفيد إلا جعلَ القراءة شاذةً، لا أن تصيِّره قرآنًا، كما سبق شرحه، فالقراءة الشاذة المخالفة لرسم المصحف: لا تثبت قرآنًا، ولا يجوز القراءة بها، لا في الصلاة ولا في غير الصلاة.
2- وأما عن عبد الله بن مسعود:
فقد رواه أبو بكر بن أبي داود في "المصاحف" (1/ 297)، بإسناده إلى ميمون بن مهران يقول وقد تلا السورة: "(والعصر، إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر)، ذكر أنَّها في قراءة عبد الله بن مسعود"، انتهى.
وهذا إسناد ضعيف أيضًا، وعلته الإرسال، فإن ميمون بن مهران رحمه الله وُلد سنة 40 كما في "تهذيب الكمال" (29/ 226)، أي: بعد وفاة ابن مسعود رضي الله عنه بثماني سنين أو سبع، فقد مات رضي الله عنه سنة 32، أو 33، كما في "تهذيب الكمال" (16/ 126)، وميمون من عادته أنه " كان يرسِل"، كما قال الحافظ في "التقريب" (7049).
وذكر السيوطي في "الدر المنثور" طريقين أخريين إلى ابن مسعود، نسبهما إلى عبد بن حميد، لم يذكر إسنادهما، وعلى أي تقدير، فقد علمتَ أن الإسناد إن صح، فلن يفيد شيئًا أيضًا، لمخالفة رسم المصحف.
وأما معنى هذه القراءة؛ فليس معنى منكرًا، وإنما هي كلمات زائدة، من قبيل التفسير والتوضيح، فلذلك ينسبها كثير من المفسرين إلى عليٍّ رضي الله عنه، تساهلًا في ذكر مثلها من القراءات الشاذة إذا لم يُنكَر معناها، وقد يصرحون أنها ليست قرآنًا، وإنما هي في عداد التفسير، وبعضهم يزيد بيانًا فيصرِّح بعدم جواز القراءة بها، كما قال مكي بن أبي طالب في "الهداية إلى بلوغ النهاية" (12/ 8425):
"وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ: (والعصر ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر)، وهذه قراءة مخالفة للمصحف المجمع عليه، فلا يجوز لأحد أن يقرأ بها فيخالفَ الإجماع، وإنّمَا هي على معنى التفسير"، انتهى.
والله أعلم.