ما الذي يُشَكِّل حُرمة المصاهرة وفقًا للفهم الأصح والأصوب من القرآن والسنة، بغضّ النظر عن المذاهب؟ هل ينطبق ذلك فقط على الزيجات الصحيحة، أم يمتد ليَشمل الزنا، الأخطاء (جماع الخطأ)، الإفتراضات الخاطئة، أو الزيجات الباطلة؟ ولماذا يسمح الشافعية بالزواج من الابنة غير الشرعية؟
أولا:
يحرم بالمصاهرة أربعة:
1-زوجة الأب؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) النساء/22.
2-أم الزوجة إذا عقد على الزوجة؛ لقوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) النساء/23.
3-بنت الزوجة إذا دخل بأمها؛ لقوله تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ) النساء/23.
4-الجمع بين المرأة وأختها، أو عمتها، أو خالتها؛ لقوله تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) النساء/23، ولحديث أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لا تُنكَحُ المرأةُ على عَمَّتِها، ولا على خالتِها) أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408) واللفظ له.
ولحديث جابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما قال: "نهى رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تُنكَحَ المرأةُ على عَمَّتِها أو خالتِها" أخرجه البخاري (5108).
ثانيا:
اتفقوا على أن النكاح الصحيح، والفاسد، والوطء بشبهة: يفيد تحريم المصاهرة فيما تقدم.
واختلفوا فيما لو كان النكاح باطلا، أو زنى، هل يفيد التحريم؟ كما لو تزوج امرأة زواج متعة، أو زنى بها، فهل تحرم عليه ابنتها؟ على أقوال:
القول الأول: أن الحرام والنكاح الباطل يفيدان التحريم، وهو مذهب الحنفية والحنابلة.
القول الثاني: أن ذلك لا يفيد التحريم، وهو مذهب المالكية والشافعية.
قال ابن قدامة رحمه الله:
" فصل: والوطء على ثلاثة أضرب:
مباح: وهو الوطء في نكاح صحيح ...، فيتعلق به تحريم المصاهرة بالإجماع، ويعتبر محرما لمن حرمت عليه؛ لأنها حرمت عليه على التأبيد، بسبب مباح، أشبهَ النسب.
الثاني: الوطء بالشبهة، وهو الوطء في نكاح فاسد، ... أو وطء امرأة ظنها امرأته أو أمته...، وأشباه هذا: يتعلق به التحريمُ، كتعلقه بالوطء المباح؛ إجماعا.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار، على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد... أنها تحرم على أبيه وابنه وأجداده وولد ولده. وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور وأصحاب الرأي.
ولأنه وطء يلحق به النسب، فأثبت التحريم، كالوطء المباح.
ولا يصير به الرجل محرما لمن حرمت عليه، ولا يباح له به النظر إليها؛ لأن الوطء ليس بمباح؛ ولأن المحرمية تتعلق بكمال حرمة الوطء؛ لأنها إباحة. ولأن الموطوءة لم يَستبح النظر إليها؛ فلأن لا يستبيحَ النظر إلى غيرها أولى.
الثالث: الحرام المحض، وهو الزنا، فيثبت به التحريم، على الخلاف المذكور، ولا تثبت به المحرمية، " انتهى من "المغني" (7/ 118).
وقال قبل ذلك في بيان الخلاف:
" (ووطء الحرام محرِّم، كما يُحرِّم وطءُ الحلال والشبهة). يعني أنه يثبت به تحريم المصاهرة , فإذا زنى بامرأة حرمت على أبيه وابنه، وحرمت عليه أمها وابنتها ... وروي نحو ذلك عن عمران بن حصين وبه قال الحسن وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وروى ابن عباس: أن الوطء الحرام لا يحرم. وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وعروة والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر " انتهى من "المغني" (7/ 90).
والراجح ما ذهب إليه المالكية والشافعية من عدم التحريم؛ لأن الحرام لا يحرِّم الحلال؛ ولأن بين العقد والوطء الحرام فروقا كثيرة، من جهة النسب، والعدة، والميراث، وغيرها.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" لو أن رجلاً زنى بامرأة فهل يحرم عليه أصلها وفرعها؟ وهل يحرم عليها أصله وفرعه؟
لا يحرم؛ لأنه لا يدخل في قول: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ)، وقوله: (وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ)، وقوله: (وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ)، والزانية لا تدخل في هذا، فالمزني بها ليست من حلائل الأبناء، وكذلك أمُّ المزني بها ليست من أمهات نسائك.
إذاً: فتكون حلالاً؛ لدخولها في قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)، وفي قراءة و " أَحلَّ لكم ما وراء ذلك ".
والمذهب: أن الزنا كالنكاح، فإذا زنا بامرأةٍ: حرُم عليه أصولها، وفروعها، وحرم عليها أصوله، وفروعه، تحريماً مؤبَّداً.
وهذا من غرائب العلم، أن يُجْعل السفاح كالنكاح، وهو من أضعف الأقوال" انتهى من " الشرح الممتع " (12/ 119، 120).
وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله : " الخلاف في هذه المسألة مشهور معروف، وأرجح القولين دليلا، فيما يظهر: أن الزنى لا يحرُم به حلال " انتهى من "أضواء البيان" (6/341) .
ثالثا:
أما زواج الرجل من بنته من الزنا، فمحرم عند الجمهور، حتى لو قلنا: إن الحرام لا يحرم الحلال، لكن هذه البنت مخلوقة من مائه، فلا تحل له.
واستدل الجمهور بقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ) النساء/23، وقالوا: هي بنته حقيقة، ولغة، ومخلوقة من مائه.
وخالف في ذلك الشافعية، وقالوا: البنوة التي تبنى عليها الأحكام هي البنوة الشرعية، وهي منتفية هنا.
وينظر: "الموسوعة الفقهية" (36/ 210).
وقد ذكر ابن القيم أن الشافعي رحمه الله صرح بكراهة ذلك، وأن الذي يليق بإمامته أن يريد بالكراهة التحريم.
قال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (2/ 80): " ومن هذا أيضًا أنه نصَّ على كراهة تَزَوَّج الرجل ابنتَه المخلوقةَ من ماء الزنا، ولم يقل قَطُّ إنه مباح، ولا جائز.
والذي يليق بجلالته، وإمامته، ومنصبه الذي أحَلَّه اللَّه به من الدين: أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة؛ لأن الحرام يكرهه اللَّه ورسوله" انتهى.
وفي "مسائل الإمام أحمد من رواية ابنه عبد الله"، ص331: " سَأَلت ابي عَن رجل زنا بِامْرَأَة فَجَاءَت بابنة من فجور، ثمَّ كَبرت الِابْنَة، هَل يجوز أن يتَزَوَّج بهَا؟
قَالَ: معَاذ الله؛ يتَزَوَّج ابْنَته! هَذَا قَول سوء" انتهى.
وقال ابن قدامة رحمه الله : "ولنا، قول الله تعالى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [النساء: 23].
وهذه بنته، فإنها أنثى مخلوقة من مائه، وهذه حقيقة لا تختلف بالحل والحرمة.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة هلال بن أمية: انظروه- يعني ولدها- فإن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك ابن سحماء؛ يعني الزاني.
ولأنها مخلوقة من مائه، وهذه حقيقة لا تختلف بالحل والحرمة، فأشبهت المخلوقة من وطء بشبهة.
ولأنها بَضْعة منه، فلم تحِلَّ له، كبنته من النكاح.
وتخلّف بعض الأحكام لا ينفي كونها بنتا، كما لو تخلّف لرق أو اختلاف دين" انتهى من "المغني" (7/ 119).
والحاصل:
أن الحرام لا يحرم الحلال، فمن زنى بامرأة لم تحرم عليه بنتها من غيره، على الراجح، أما بنته من الزنا فتحرم عليه.
والله أعلم.