سور الحواميم مكية وسورة محمد مدنية، ما هو التناسب؟
ترتيب السور في المصحف ليس توقيفياً، وإنما هو اجتهادي من الصحابة رضي الله عنهم عند جمع القرآن، فالترتيب في المصحف لا علاقة له بتاريخ النزول، وكثير من السور المتأخرة الترتيب في المصحف، نزلت في زمن قبل المتقدمة عليها في الترتيب.
فسورة محمد مثلاً، نزلت بعد الحديد من حيث الزمن، والحديد في ترتيب المصحف بعدها، كما نزلت قبلها سورة الزلزلة، وهي في ترتيب المصحف بعدها أيضاً. وهذا في جل سور القرآن.
انظر: " البرهان في علوم القرآن" للزركشي (1/193-194) و "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" (1/ 99).
وسبق في الموقع بيان ذلك مفصلاً (221099).
ثانياً:
تلمس الصحابة رضي الله عنهم عند جمع المصحف بعض المعاني والمناسبات في ترتيب السور.
ومما ذكره أهل التفسير وعلوم القرآن في مناسبة جعل سورة محمد بعد الأحقاف ما يلي.
قال البقاعي رحمه الله:
"لما أقام سبحانه الأدلة في الحواميم، حتى صارت كالشمس، لا يزيغ عنها إلا هالك، وختم بأنه يهلك بعد هذه الأدلة القوم الفاسقون، افتتح هذه [=يعني: سورة محمد] بالتعريف بهم، فقال سبحانه وتعالى: الذين كفروا، أي ستروا أنوار الأدلة، فضلوا على علم وصدوا عن سبيل الله ؛ أي امتنعوا بأنفسهم، ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر" انتهى من نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (18/ 195).
وقال السيوطي رحمه الله:
"لا يخفى وجه ارتباط أولها -سورة محمد- بقوله في آخر الأحقاف: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، واتصاله وتلاحمه، بحيث إنه لو أسقطت البسملة منه، لكان متصلًا اتصالًا واحدًا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة، آخذًا بعضه بعنق بعض" تناسق الدرر في تناسب السور = أسرار ترتيب القرآن (ص131). وانظر: التفسير المنير - الزحيلي (26/ 75).
كما تظهر المناسبة في أوجه أخرى، فأول القتال: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ "محمد:1"، وسورة القتال مع هذا متممة لموضوع سورة الأحقاف قبلها؛ فالأحقاف فيها الحديث عن إعراض الكافرين في مختلف العصور، وفيها دعوتهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن، وقد استنفدت السورة وسائل الإقناع العقلي، وأثبتت عتو أهل الكفر وجحودهم، فكانت سورة القتال بما فيها من جهاد وقواعد الحرب وتشريعاته، متفقة تمامًا مع نسخ وسائل الدعوة السلمية بآية السيف. انظر "أسرار ترتيب القرآن" (ص:131).
والله أعلم.
