سؤالي يا شيخ يتكون من عدة نقاط ، لكنها متصلة ببعضها البعض ، وهى تدور حول طلب العلم ، وأرجو من فضيلتكم عند الإجابة على الأسئلة أن تضع أمام عينيك أني أريد أن أكون يوماً ما كالشيخ ابن باز أو الشيخ ابن عثيمين ، قد تتهمني بالجنون أو السفه ، ولكن يعلم الله أن هذين العالمين الربانيين هما قدوتي في طلب العلم . 1- الزواج : هل يتعارض الزواج مع طلب العلم ، خاصةً أنى فى بداية الطلب ، وقد تأخرت كثيراً فى الطلب ، فعمري الآن 25 عاما ، ولكني عندي رصيد معقول من المسائل ، ولكن بدون تأصيل علمي ، ولكن هناك أمر ، وهو أني شاب أنعم الله علي بقوة البنية وحسن الهيئة ، وأخاف على نفسي في زمن الفتن الذي نعيشه ، كما أن الفتاة التي أنوي الزواج منها لا يمكن تعويضها بسهولة ؛ لأنها من بيت ملتزم جداً ، وأن أحب والدها وإخوانها الذكور ، وأتمنى أن يكون بيننا مصاهرة . 2- ساعات التحصيل : كم ساعة يجب علي أن ألتزم بها في تحصيل العلم ، بخلاف الوقت المخصص للقرآن ، فأنا أجعل له وقتاً خاصاً به تلاوةً وحفظاً . 3- الإنترنت والفضائيات : أنا أقضي حوالي ساعة ونصف يومياً في تصفح المواقع الدينية عبر الإنترنت ، كموقعكم وموقع المسلم ( د/ ناصر العمر) وموقع الشبكة الإسلامية ، وكذلك أقضي حوالي ساعة يومياً في متابعة قناة الجزيرة الإخبارية ، أو أي برنامج يناقش قضية مهمة على أي قناة أخرى ، وذلك بهدف التثقيف في مختلف جوانب الحياة ، فهل أستمر على ذلك ، أم أستفيد من ذلك الوقت في طلب العلم وكذلك العبادة ؟
حول طلب العلم
السؤال: 76010
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أبارك لك أخي السائل هذه الهمة العالية ، وأبارك لك ما أنعم الله عليك من حرصٍ وسعيٍ لتحصيل العلم ، فإن العلم الشرعي أشرف ما يقطع به الإنسان عمره ، ويُفني له شبابه .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( الدُّنيَا مَلعُونَةٌ ، مَلعُونٌ مَا فِيهَا ، إِلَّا ذِكرُ اللَّهِ ، وَمَا وَالَاهُ ، وَعَالِمٌ أَوَ مُتَعَلِّمٌ )
رواه الترمذي (2322) وقال : حسن غريب ، وحسنه ابن القيم في عدة الصابرين (260) والألباني في الصحيحة (2797)
ومسيرة العلم أخي مسيرة طويلة ، فهي مشروع عمر ، وهي فكرة حياة كاملة ، ولا يزال طالب العلم في طلبه حتى يلقى الله على ذلك .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لَن يَشبَعَ المُؤمِنُ مِن خَيرٍ يَسمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنتَهَاهُ الجَنَّةُ )
رواه الترمذي (2686) وقال : حسن غريب ، وصححه الحاكم (4/129) ووافقه الذهبي ، وقد ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي .
وهذه نصائح فيها إجابة على ما سألت عنه :
أولا :
أنفع ما يكون طلب العلم في سن الشباب ، حيث يكون الذهن متوقدًا ، والهمةُ حَيَّةً كبيرةً ، ولا يضر المرء أن فاتت سنون صغره وطفولته دون حفظ العلوم أو دراستها ، فإن الطالب في شبابه قادر على تعويض ما فاته ، بالحرص والجد والمتابعة .
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (5/284) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله :
" تفقهوا قبل أن تُسَوَّدُوا "
قال أبو عبيد في "غريب الحديث" (3/369) :
" يقول : تعلموا العلم ما دمتم صغارا قبل أن تصيروا سادة " انتهى .
ولما ذكر البخاري في صحيحه (ص/39) قول عمر معلقا ، أتبعه بقوله :
" وبعد أن تُسَوَّدُوا ، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم " انتهى .
يريد البخاري رحمه الله ، بيان أن كبر السن والسيادة لا تمنع من العلم ، فقد أسلم كثير من الصحابة في كبر سنهم ، مثل أبي بكر رضي الله عنه ، ثم صاروا أئمة علم ونور وهداية .
كما أبشرك أخي السائل بأن سن العشرين هو أفضل سنين الطلب ، فهو سن القوة والشباب ، وقد اختاره أهل العلم لتعلم العلوم الصعبة ، وما فات قبله إنما هو لحفظ القرآن وبعض المتون.
جاء في تدريب الراوي (1/414) :
" قال جماعة من العلماء : يُستَحَبُّ أن يبتدئ بسماع الحديث بعد ثلاثين سنة ، وعليه أهل الشام ، وقيل بعد عشرين سنة وعليه أهل الكوفة ، وقال سفيان الثوري : كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبَّدَ قبل ذلك عشرين سنة ، وقال أبو عبد الله الزبيري من الشافعية : يستحب كَتْبُ الحديث في العشرين ؛ لأنها مجتمع العقل ، قال : وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض ، أي : الفقه " انتهى .
فأنت الآن في بداية الطلب ، ولم يفتك شيء إن شاء الله ، فاحرص على أن تكون بداية صحيحة قوية ، ولا تضيع من عمرك شيئا ، فإن ما يفوت لا يرجع أبدا .
ثانيا :
لما كان طلب العلم مشروع عُمْر ، لا يتوقف إلا بانخرام هذا العمر بالموت ، كان لا بد أن يعوِّد الطالب نفسه على التوفيق بين حاجات الدنيا وبين تكليفات الطلب ، ومن ذلك أمر الزواج ، فالزواج لا يكون أبدا عائقا عن طلب العلم ، فإذا كان الطالب يرى العلم في همه وفكره أعظم عبادة يستغرق بها سنين عمره ، فلن يكون الزواج أو العمل أو القيام بتكاليف الدنيا كلها إلا خادما لمشروع العمر الكبير ، ألا وهو عبادة الله بالتعلم .
وهكذا كان الصحابة والتابعون والعلماء السالفون ، منهم التاجر ومنهم الوالي ومنهم المتزوج بالواحدة ومنهم المتزوج بالأربع ، ومنهم صاحب العيال ، فلم يشغلهم ذلك عن العلم والتعلم .
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله "إحياء علوم الدين" (2/44) :
" فإن انتفت في حقه الآفات واجتمعت الفوائد ، بأن كان له مال حلال وخلق حسن ، وجِدٌّ في الدِّينِ تَامٌّ ، لا يشغله النكاح عن الله ، وهو مع ذلك شاب محتاج إلى تسكين الشهوة ، ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل والتحصن بالعشيرة ، فلا يُمارَى في أن النكاح أفضل له " انتهى .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "لقاء الباب المفتوح" (3/56) :
هناك طالب علم شرعي يريد أن يتزوج ، ولكنه يخشى إن تزوج أن يتعطل وينشغل عن طلب العلم ، فما نصيحتكم له ؟
فكان جواب الشيخ رحمه الله :
" الزواج لا يَعُوقُ عن طلب العلم ، بل ربما يعين على طلب العلم ، قد يوفق الإنسان لامرأة تقرأ وتكتب وتساعده ، فإن لم تكن ، فأقل ما يكون أن تذهب عنه الوساوس والتفكير في الزواج ، فالزواج يعين على طلب العلم ، لأنه يهيء للإنسان الجو المناسب لطلب العلم ، من حيث الهدوء والراحة ، وكذلك فإن الزوجة توفر على زوجها كثيرا من الوقت الذي كان يضيع منه في قضاء حاجاته في البيت ، فنصيحتي لهذا الشاب أن يقدم على الزواج ، فإن فيه خيرا كثيرا ، وامتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، واتباعا لسنته وسنة إخوانه المرسلين " انتهى .
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله "فتاوى علماء البلد الحرام" (277) :
" نصيحتي لجميع الشباب والفتيات البدار بالزواج والمسارعة إليه إذا تيسرت أسبابه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وِجاء ) ولما في ذلك من المصالح الكثيرة التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، من غض البصر وحفظ الفرج وتكثير الأمة والسلامة من فساد كبير وعواقب وخيمة " انتهى .
ثالثا :
أما الكلام على ساعات التحصيل ، فذاك فصل تنافس فيه المتنافسون ، لا يملك أحد أن يحدَّه بحدٍّ أو يقدِّرَه بوقت ، وأنا أسوق لك هنا بعض الأمثلة ، ثم أترك لك التقدير بعد ذلك :
قال ابن العطار تلميذ النووي :
" ذكر لي شيخنا رحمه الله أنه كان لا يضيِّع له وقتا ، لا في ليل ولا في نهار ، إلا في الاشتغال بالعلم ، حتى في الطريق يكرر أو يطالع ، وأنه دام على هذا ست سنين ، ثم أخذ في التصنيف ، وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة بعد عشاء الآخرة ، ويشرب شربة واحدة عند السحر ، ويقول أخاف أن يرطب جسمي ويجلب لي النوم " انتهى .
ويقول ابن عقيل الحنبلي :
" إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطِّرُه ، وأنا أُقَصِّر بغاية جهدي أوقات أكلي ، حتى أختار سف الكعك وتحسِّيَه بالماء على الخبز ، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ ، توفرا على مطالعة ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه ، وإن أجلُّ تحصيل عند العقلاء هو الوقت ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص ، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة " انتهى . انظر "صلاح الأمة" (4/169 – 175)
رابعا :
لا ينبغي لطالب العلم الشرعي أن يهمل أو يُغفل الاطلاع الجيد على أحداث عصره ، وظروف مجتمعه ، فذلك من ضرورات العلم والفقه ، والفقيه هو الذي يحسن فهم النصوص ، وفهم الواقع الذي ينزلها عليه .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "لقاء الباب المفتوح" (1/330) :
" من المعلوم أن واقع الناس لا بد أن يكون معلوما لدى الإنسان ، حتى يعرف ماذا يعيش فيه ، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن : ( إِنَّكَ تَأتِي قَومًا أَهلَ كِتَابٍ ) فأخبره عن واقعهم وحالهم ، لكن لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يطغى على الفقه في الدين ، وأن لا يكون للشاب أو لغير الشاب هَمٌّ إلا أن يبحث ما حصل ، وماذا حصل ، في أمر لا يمكنه إصلاحه ، أيضا لو أراد الإصلاح فالفقه في الدين هو الأصل ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( مَن يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ) والفقه في الواقع نحتاج إليه لنطبق الفقه في الدين على أحوال الناس ، لكن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يطغى فقه الواقع على الفقه في الدين ، بحيث لا يكون للإنسان هَمٌّ إلا مطالعة الجرائد والمجلات ، وما أشبه ذلك ، ويعرض بذلك عن مطالعة الكتاب والسنة " انتهى .
ولكنك تعلم أخي السائل أن كثيرا مما يعرض على القنوات الفضائية مما لا يجوز للمسلم مشاهدته أو متابعته ، وذلك بسبب ظهور النساء المتبرجات فيه ، ومصاحبة الموسيقى له ، وقد أغنانا الله سبحانه وتعالى عن ذلك – والحمد لله – ، إذ يمكنك متابعة ما تحتاجه في قناة بعيدة عن المخالفات الشرعية ، أو موقع إخباري إسلامي موثوق بالقائمين عليه ؛ لا سيما إذا فهمنا أن المطلوب ، في مثل حالك ، هو الإلمام الجملي بالأحداث وأحوال الناس ، ثم الاهتمام بما يتعلق بحياتك العلمية والدعوية ، لا سيما إذا كان منكرا يمكنك المشاركة في تغييره ، أو معروفا تستطيع الأمر به أو المشاركة في قيامه .
وأما أن تكون همتك ـ أخي الكريم ـ تدعوك لأن تبلغ في العلم ما بلغ الأئمة الكبار ، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وما ذلك على الله بعزيز ، لكن لكل قول حقيقة ، فلتكن حقيقة قولك أن تجد وتجتهد في تحصيل العلم ، وصرف النفس والنفيس في العناية به ، والعمل به ، ثم الافتقار إلى الله تعالى في أن يبلغك مرتبة الإمامة في العلم والدين ؛ فذلك مما أثنى الله تعالى به على عباده ؛ فقال سبحانه في صفات عباد الرحمن :
( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74)
غير أنا نحذرك من المبالغة في أحلام اليقظة ، التي يكون مؤداها أن تغرق صاحبها في الخدر ساعات أو أياما ، ثم لا يلبث أن يرى نفسه يراوح بين قدميه ، وهو ـ بعد ـ في مكانه ؛ وسرعان ما يصيبه اليأس والإحباط .
وإنما نوصيك بقول الله تعالى :
( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:100) ونذكرك بقول النبي صلى الله عليه وسلم للسالكين في طريقهم إلى الله تعالى :
( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا )
رواه البخاري (6463) ومسلم (2818) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب