أرجو أن تشرح لي مسألة إغضاب الوالدين ، حيث يحرم أن أقول لهما مجرد كلمة أف ، السبب في سؤالي هذا هو أنني متزوج منذ عدة سنوات ولدي طفلان ، ولكن والدتي تشكو دائما من زوجتي ، ولا يوجد بينهما تفاهم ، وهي تتصل بي وتخبرني أن زوجتي شريرة ، وتقول إن زوجتي لا تحترمها ، في حين أن زوجتي ليست كذلك ، وتقول أيضا إن زوجتي تفعل كذا وتقول كذا وهو ما تنكره زوجتي ، وهي لم تعد تقيم معنا ، ومع ذلك ما زالت تقول إن زوجتي لا تحترمها ، ولا أعتقد أن زوجتي قد أخطأت في شيء في الحقيقة ، ولكني متكدر جدا لأنهما لا تستطيعان التفاهم معا ، وزوجتي تبتعد عن عائلتي لأنها تخشى أن يتهموها بشيء لم تفعله ، وهذا يزيد من غضب أمي ؛ لأنها تقول إن زوجتي لا تهتم بها ، فماذا أفعل في هذا الموقف بحيث لا أغضب والديّ ، ولكن في نفس الوقت لم ترتكب زوجتي شيئا ، وتقول لي إنه حرام علي أن لا أقول شيئا عندما يتهمونها بشيء لم تفعله ، فهل هذا صحيح ؟ أرجو نصحي ، ماذا أفعل في هذا الموقف ؟ وهل حرام على أمي أن تخبرني بأن أختار بينهما ؟
والدته تتهم زوجته زورا
السؤال: 82453
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
مشكلتك أيها الأخ الكريم ، هي إحدى المعضلات في الحياة الزوجية ، وهي مشكلة قديمة معقدة ، حتى صارت عند العرب مضرب المثل لمن بينهم من المعاملة والأخذ والإعطاء ما لا غنى بهم عنه ، ثم لا تزال المشادة والعداوة بينهم ؛ فيقولون : ( إن الحماة أولعت بالكَنَّة ، وأولعت كنتها بالظِّنة ) ؛ فالحماة أخت الزوج وأمه، والكنة امرأة الرجل . والمعنى : أن الكنة إذا سمعت أدنى كلمة قالت: هذا عمل حماتي !! [ انظر : المستقصى في الأمثال ، للزمخشري 1/77 ] ؛ فهناك ، في واقع الأمر ، تربص متبادل من الطرفين ، كل بالآخر !!
وفي مثل هذه العلاقات تشتبك كثير من العوامل والمؤثرات التي ينبغي مراعاتها وتفهمها ، ثم التدرب على كيفية التعاطي معها للخروج بأفضل النتائج .
ولعلك تدرك أخي الكريم أن الغيرة – التي فطر الله سبحانه وتعالى البشر عليها – هي من أهم تلك العوامل ، وخاصة بين الأم والزوجة ، فإن الأم التي صحبتك تلك السنوات الطوال ، تحفظك وترعاك وتعتني بك ، سوف تشعر بأنك لم تعد ملكا خالصا لها ، بل سوف تشعر أيضا أن نصيبها منك لم يعد وافيا بحقها عليك ، وأن القسمة بينها وبين زوجتك لم تكن عادلة ؛ فللزوجة الحب والحنان والتدليل والرعاية ، وللأم الصبر على متاعبها على مضض ، وإعطاؤها ما تحتاجه ، على كره وتأفف ، هذا إن كان سيعطيها ، فكيف إذا كان عاقا ، ومنعها حقوقها ؟!! وحينئذ تخلق المشاكل .
والغيرة نار تعمي وتصم ، لا تلبث أن تأكل كل سعادة واطمئنان تعيشها الأسرة ، وهي أقوى ما تكون إذا أسأنا التعامل معها ، ولم نحاول تهذيبها وتخفيف لهيبها .
أقول ذلك ابتداء كي تتفهم معي أمرين اثنين مهمين :
الأمر الأول : كي تدرك حقيقة السبب الذي يدفع والدتك لمثل هذه التصرفات تجاه زوجتك ، وتدرك حقيقة عذرها في ذلك ، وأنها قد لا تكون تملك من أمرها شيئا ، فالمرأة ضعيفة جدا أمام هذا الشعور ، ولا تستطيع إخفاءه رغم سعيها الشديد للظهور بمظهر الرضا والقبول ، فإذا أدْرَكتَ حقيقة عذر الوالدة ، اطمأن قلبك نحوها ، وسكنت مشاعرك تجاهها ، وأيقنت أن برها وطاعتها فرض لازم في حقك نحوها ، لا ينبغي أن تشك في ذلك لحظة واحدة ، مهما بلغ حد المشاكل التي تجرها عليكم نار الغيرة .
أما الأمر الثاني : فهو أن تعلم أنك بالحب وحده يمكنك تغيير الحال الذي بين والدتك وزوجتك ، فالوالدة بحاجة إلى اطمئنان زائد بمحبة ابنها لها ، وأنه على ما عَهِدَتهُ فيه من مودةٍ واحترام وبر وإحسان ، بل ينبغي عليك السعي إلى مضاعفة تلك المشاعر ، بتكرار الزيارات والهدايا والحرص على إسعادها بالكلمة وتلبية الرغبات ، وحينئذ ستبدأ نفسها بالسكون ، وغيرتها بالهدوء ، وتختفي تدريجيا تلك المشاكل التي كانت تصنعها .
وإذا كانت الوالدة ، من خلال ما يبدو لنا من رسالتك ، سريعة في التجني على زوجتك وأم أولادك ، فإننا سوف نحاول أن نبدأ العلاج منك ومن زوجتك ؛ لأن هذا في واقع الأمر هو الطرف الأسهل والأقرب في المعادلة ، ونقول للزوجة الكريمة ، قال الله تعالى : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ) رواه مسلم (2588) .
وفي حديث آخر : ( وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا )
رواه الترمذي (2325) وصححه الألباني .
فكم من المشاكل ستزول حين تجاهد الزوجة الكريمة نفسها على ذلك الأدب ، ابتغاء مرضاة الله، وإصلاحا لحال زوجها ، ومحافظة على عيشه وبيته !!
ولتحاول أن تنزل أم زوجها مكان أمها ، في احتمال غضبها ، وغفران إساءتها ، لا سيما والمسكن منفصل ، وهذا يقلل إلى حد كبير من حدوث المشاكل والمصادمات .
وكم ستخف تلك المشكلات ، إلى أن تنتهي بإذن الله ، إذا استطاعت الزوجة الكريمة أن تتحين الفرص المناسبة لهدية لطيفة تهديها لأمك ، حتى وإن كان في النفوس ما فيها . قال صلى الله عليه وسلم : ( تهادوا تحابوا ) رواه أبو يعلى ، وحسنه الألباني .
وأما أنت ، أيها الأخ الكريم ، فيجب أن يتسع قلبك لبر الوالدة وحبها الكبير ، مع حب الزوجة والسكون إليها ، ونجاحك في ذلك بداية العلاج ، وفشلك فيه يعني استمرار المعاناة أو زيادتها ، والأمر يحتاج منك إلى شيء من التصبر والتعلم ، فإن الإنسان قابل لتعلم بذل مشاعر الود والمحبة كما يتعلم أي صناعة في هذه الدنيا .
وأنت خلال ذلك كله لا بد أن تقف عند الخطوط التي رسمتها لك الشريعة الإسلامية ، وذلك في قوله سبحانه وتعالى :
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) الإسراء/23
وقوله سبحانه :
( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان/15
فتأمل كيف أن شرك الوالدين أو كفرهما – وهي أعظم الذنوب – لا ينبغي أن تحجب الابن عن صحبة والديه بالمعروف ، فكيف ببعض المشاكل مع الزوجة ؟
وأهم هذه الخطوط التي رسمتها الشريعة أيضا ، حفظ حق الزوجة ، واحترام مشاعرها ورغباتها ، وعدم الجور عليها أو ظلمها لإيفاء حق الوالدة ، فلا ينبغي لك أن تطيع والدتك إذا أمرتك بفراق زوجتك ، ولا يجوز أن تصدقها فيما تتهم به زوجتك زورا وبهتانا ، خاصة إذا كانت الزوجة ذات خلق ودين ، فهي أمانة مستودعة في ذمتك ، فيجب عليك أن تحفظ هذه الأمانة .
وإذا كان لنا من همسة في أذن الوالدة الكريمة ، فنقول لها :
أيتها الأم الكريمة التي حملت ووضعت ، وربت وتعبت ، وآثرت على نفسها وبذلت ، لا تكدري إحسانك لابنك بتنغيص عيشه ، وأنزلي هذه الزوجة التي اختارها ابنك لنفسه ، وجعل الله له منها الولد ، أنزليها منزلة ابنتك ، وانظري : كيف تحبين أن تعيش ابنتك مع زوجها وأهلها ، فعامليها به ، وجاهدي نفسك على الإحسان ، كما أمرنا الرب الجليل : ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة/195 .
فإذا عجزت عن الإحسان فاعدلي . قال الله تعالى : ( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات/9 .
وحذار ، أيتها الوالدة ، من الظلم ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) متفق عليه .
وقد سبق تفصيل بعض الأحكام المتعلقة بذلك في جواب السؤال رقم (7653) ، (44923) ، (47040) .
نسأل الله أن يصلح بالكم ، وأن يصلح ذات بينكم ، وأن يرزقنا وإياكم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة