الأقطاب والأبدال في الفكر الصوفي
السؤال: 83038
سمعت وقرأت عن ما يسمى بالأبدال والأقطاب وغيرهم ، هل هم فعلا موجودون بيننا ؟
وهل حديث ( لا تسبوا أهل الشام ؛ فإن فيهم الأبدال ) صحيح أم لا ؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
الولاية عند أهل السنة هي التي عرَّفها الله سبحانه
وتعالى في كتابه الكريم ، حيث قال تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ
يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ، لاَ
تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
يونس/62-64
فأعلنت الآية أن ولي الله هو المؤمن التقي ، الذي يحب الله
وينصره ، ويسير في مرضاته ، ويحفظ حدوده ، ويقيم شريعته ودينه ، وهو عبد من عباد
الله ، لا يخرج عن قهره وسلطانه ، بل لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا يعلم ما قدر
الله له ، فهذا هو ولي الله عند أهل السنة .
وطريق الولاية للعبد هو أن يقوم بأداء الفرائض ، ثم يتدرج في
أداء النوافل حتى يحبه الله تعالى ، فإذا أحبه كان وليا حقا له جل وعلا ، وقد جاء
في الحديث الصحيح :
( إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ فَقَالَ :
إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ . قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبرِيلُ . ثُمَّ
يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ .
فَيُحِبُّهُ أَهلُ السَّمَاءِ ، قَالَ : ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القبُولُ فِي الأَرضِ )
رواه مسلم (2637)
ثانيا :
أما الولاية في عرف التصوف البدعي فلها معنى آخر يختلف
عما عند أهل السنة ، فولي الله عندهم من اختاره الله ، ولو لم يكن فيه من مواصفات
الصلاح والتقوى ما يؤهله لحب الله له ، إذ الولاية عندهم نوع من الوهب الإلهي دون
سبب ، وبغير حكمة ، لذلك كانوا يعتقدون في بعض الظلمة والفسقة والمجانين وأهل
الفجور أنهم من الأولياء بمجرد أن يظهر على أيديهم من خوارق العادات ، مثل : ضرب
الجسم بالسكاكين ، واللعب بالحيات والنار وأمثال ذلك ، حتى عَدُّوا في أوليائهم من
يشرب الخمر ويزني ، ويقولون : الولي الصادق لا تضره معصية أبدا .
ولم يكتفوا بهذا في تعريف الولاية ، بل يقررون أن الولي يتصرف في
الأكوان ، ويقول للشيء كن فيكون ، وكل ولي عندهم قد وكَّله الله بتصريف جانب من
جوانب الخلق ، فأربعة أولياء يمسكون العالم من جوانبه الأربعة ، ويسمون الأوتاد ،
وسبعة أولياء آخرون كل منهم في قارة من قارات الأرض السبع ، ويسمون الأبدال (
لكونهم إذا مات واحد منهم كان الآخر بدله ) ، وعدد آخر من الأولياء في كل إقليم ،
في مصر ثلاثون أو أربعون ، وفي الشام كذلك ، والعراق وهكذا ، وكل واحد منهم قد أوكل
إليه التصريف في شيء ما ، وفوقهم جميعا ولي واحد يسمى القطب الأكبر أو الغوث ، وهو
الذي يدبر شأن الملك كله ، وهكذا أسسوا لهم دولة في الباطن تحكم وتنفذ وتتحكم في
شؤون الناس على منوال الدولة السياسية ، وهذه الدولة يترأسها القطب أو الغوث ، يليه
الإمامان ( وهما الوزيران ) ، ثم الأوتاد الأربعة ، ثم الأبدال السبعة .
هذه هي الولاية الصوفية ، وهي لا تمت من قريب أو بعيد للولاية
الإسلامية القرآنية ، فالولي في الإسلام عبد هداه الله ووفقه وسار في مرضاة ربه حسب
شريعته ، وهو يخشى على نفسه من النفاق وسوء العاقبة ، ولا يعلم هل يقبل الله عمله
أو لا ، وأما الولي الصوفي فقد أعطوه من خصائص الربوبية ما يتصرف به في جانب من
جوانب الكون ، ولا يلتزم بما شاء من شريعة الله ، ويدخل الملائكة تحت مشيئته .
وأصل فكرة الولاية الصوفية مأخوذة من الفلسفة الإغريقية
القديمة التي تقوم على فكرة تعدد الآلهة ، وكان أول من وضع فكرة الولاية الصوفية في
أواخر القرن الثالث الهجري هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي ، الذي يسمونه ( الحكيم
) – وهو غير الإمام صاحب السنن المشهورة بسنن الترمذي – ثم بعد ذلك اشتهرت أقوالهم
، وأصبحت كتب أئمتهم مليئة بهذه الأفكار والمصطلحات ، ولو ذهبنا ننقل أقوالهم
وأباطيلهم لطال بنا المقام ، وحتى لا يظن أحد أننا نتجنى عليهم ، فهذه أسماء بعض
مراجعهم ، وستجد أن ما ذكرناه أقل بكثير من شناعة أفكارهم ، انظر “الفتوحات
المكية” لابن عربي (2/537،455) ، كتاب “اليواقيت والجواهر” لعبد الوهاب الشعراني
(2/79) ، “المعجم الصوفي” لسعاد الحكيم (189-191، 909-913) ، وانظر من مراجع أهل
السنة “الفكر الصوفي” للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق (343-383)
ثالثا :
الحديث الذي ذكره السائل الكريم حديث ضعيف ، لا يصح بوجه من
الوجوه ، ولم يرد من طريق صحيحة ذكر شيء من مراتب الولاية عند الصوفية .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في “المنار المنيف” (136) :
” أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد
كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقرب ما فيها ( لا تسبوا أهل الشام
؛ فإن فيهم البدلاء ، كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر ) ذكره أحمد ،
ولا يصح أيضا ، فإنه منقطع ” انتهى .
( وانظر تفصيل الأحاديث المروية في ذلك وبيان نكارتها في “المقالات القصار” لأبي
محمد الألفي (69-81) )
وقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :
عن الحديث المروى فى الأبدال ، هل هو صحيح أم مقطوع ، وهل
الأبدال مخصوصون بالشام أم حيث تكون شعائر الاسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها
الأبدال ، بالشام وغيره من الأقاليم ، وهل صحيح أن الولى يكون قاعدا فى جماعة ويغيب
جسده ، وما قول السادة العلماء فى هذه الاسماء التى تسمى بها أقوام من المنسوبين
إلى الدين والفضيلة ، ويقولون هذا غوث الأغواث ، وهذا قطب الأقطاب ، وهذا قطب
العالم ، وهذا القطب الكبير ، وهذا خاتم الأولياء ؟
فأجاب رحمه الله :
” أما الاسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة ، مثل
الغوث الذي بمكة ، والأوتاد الأربعة ، والأقطاب السبعة ، والأبدال الأربعين ،
والنجباء الثلاثمائة ، فهذه أسماء ليست موجودة فى كتاب الله تعالى ، ولا هي أيضا
مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف يحمل عليه ، إلا لفظ
الأبدال ، فقد روي فيهم حديث شامى منقطع الإسناد عن على بن أبى طالب رضي الله عنه
مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :
( إن فيهم – يعني أهل الشام – الأبدال الأربعين رجلا ، كلما مات
رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ) ، ولا توجد هذه الأسماء فى كلام السلف كما هي على
هذا الترتيب ، ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعانى عن المشائخ المقبولين عند
الأمة قبولا عاما ، وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشائخ ، وقد
قالها إما آثرا لها عن غيره ، أو ذاكرا ، فأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا
الله ، فهو غياث المستغيثين ، فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره ، ولا بملك مقرب ،
ولا نبى مرسل ، ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم
ونزول الرحمة إلى الثلاثمائة ، والثلاثمائة إلى السبعين ، والسبعون إلى الأربعين ،
والأربعون إلى السبعة ، والسبعة إلى الأربعة ، والأربعة إلى الغوث ، فهو كاذب ضال
مشرك ، فقد كان المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله :
( وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه ) وقال سبحانه
وتعالى : ( أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ) فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم
بعده بوسائط من الحُجَّاب وهو القائل تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب
دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) ، وقد علم المسلمون
كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم ، لا
ظاهرا ولا باطنا ، بهذه الوسائط والحجاب ، فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من
الملوك وسائر ما يقوله الظالمون علوا كبيرا ، وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد
فى كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين ، لا يتم الإيمان إلا به ، بل
هذا الترتيب والأعداد تشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم فى
السابق والتالي والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب الذى ما نزل الله به من
سلطان .
وأما الأوتاد فقد يوجد فى كلام البعض أنه يقول : فلان من
الأوتاد ، يعني بذلك أن الله تعالى يثبت به الإيمان والدين فى قلوب من يهديهم الله
به ، كما يثبت الأرض بأوتادها ، وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء
، فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة
والجبال الكبيرة ، ومن كان بدونه كان بحسبه ، وليس ذلك محصورا فى أربعة ولا أقل ولا
أكثر ، بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة بقول المنجمين فى أوتاد الأرض .
واما القطب فيوجد أيضا فى كلامهم : ( فلان من الأقطاب ) ،
أو ( فلان قطب ) فكل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا باطنا أو ظاهرا فهو
قطب ذلك الأمر ومداره ، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر ، لكن
الممدوح من ذلك من كان مدارا لصلاح الدنيا والدين ، دون مجرد صلاح الدنيا ، فهذا هو
القطب فى عرفهم .
وكذلك لفظ البدل ، جاء فى كلام كثير منهم .
فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي صلى
الله عليه وسلم ، فإن الإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام ، وكانت الشام
والعراق دار كفر ، ثم لما كان فى خلافة علي رضي الله عنه ، قد ثبت عنه عليه السلام
أنه قال : ( تمرق مارقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) ، فكان علي
وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام ، ومعلوم أن الذين كانوا مع علي رضي
الله عنه من الصحابة ، مثل : عمار بن ياسر ، وسهل بن حنيف ونحوهما ، كانوا أفضل من
الذين كانوا مع معاوية ، فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال جميعهم ، الذين هم أفضل
الخلق ، كانوا في أهل الشام ، هذا باطل قطعا ، وإن كان قد ورد فى الشام وأهله فضائل
معروفة ، فقد جعل الله لكل شىء قدرا ، والكلام يجب أن يكون بالعلم والقسط .
والذين تكلموا باسم ( البدل ) فسروه بمعان ، منها : أنهم
أبدال الأنبياء ، ومنها : أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ،
ومنها : أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات ، وهذه الصفات
كلها لا تختص بأربعين ، ولا بأقل ولا بأكثر ، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض ”
انتهى باختصار من مجموع فتاوى ابن تيمية (11/433-444)
رابعا :
جاء في كلام بعض السلف ، وبعض أهل العلم المتأخرين إطلاق لفظ : (
فلان من الأبدال ) ، ومن ذلك ما جاء في “التاريخ الكبير” للبخاري (7/127) في ترجمة
فروة بن مجالد : ” وكانوا لا يشكّون في أنه من الأبدال ” انتهى
، وقال الإمام أحمد كما في “العلل” للدارقطني (6/29) : ” إن كان من الأبدال في
العراق أحد ، فأبو إسحاق إبراهيم بن هانئ ” انتهى .
ولا يعنون به ما يريده المتصوفة في اصطلاحهم الباطني البدعي ،
وإنما يريدون المعنى اللغوي ، فمن قيل فيه ذلك من أهل العلم فهو من ورثة الأنبياء
بما معه من العلم الشرعي ، فكأنه بدل عنهم في تبليغ الوحي وتعليمه الناس .
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في “مجموع الفتاوى” (4/97) :
” وأما أهل العلم فكانوا يقولون هم الأبدال ؛ لأنهم أبدال
الأنبياء ، وقائمون مقامهم حقيقة ، ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة ، كل
منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه ، هذا في العلم والمقال ، وهذا
في العبادة والحال ، وهذا في الأمرين جميعا ، وكانوا يقولون هم الطائفة المنصورة
إلى قيام الساعة ، الظاهرون على الحق ، لأن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله
معهم وهو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ” انتهى
.
وانظر سؤال رقم (10527)
والله أعلم .
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
موضوعات ذات صلة