سؤال من نصراني عن اختلاف العلماء في تفسير القرآن الكريم؟
السؤال: 112787
سؤال من نصراني في كندا : لماذا العلماء اختلفوا في تفسير القرآن الكريم ، يدَّعون أن الإنجيل الذي في كندا نسخة واحدة ، والتفسير فيها واحد ، ليس هناك رأيان ؟ فما قولكم جزاكم الله عنا خيراً ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً :
لم
يقع الخلاف بين العلماء في تفسير جميع القرآن ، وإنما اختلفوا في تفسير بعض آيات
منه ، ولا شك أن أكثر الآيات لم يقع في تفسيرها خلاف ، بل يتفق المفسرون من السلف
والخلف والعلماء على تفسيرها ، وذلك أمر ظاهر لكل من يقرأ القرآن ويقرأ كتب التفسير
، وما زال عامة المسلمين يقرؤون القرآن ويسمعون آياته ولا يستشكلون أكثرها ، بل
يعرفون المراد منها ، وهذا كافٍ في تحقيق هداية القرآن .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
“وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه اختلاف تناقض : فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم
يختلفوا فيه”
انتهى .
“مجموع الفتاوى” (5/162) .
ثانياً :
كما
أن الاختلاف الواقع أكثره حدث بعد القرون المفضلة ، أما الصحابة والتابعون فكان
الخلاف بينهم في تفسير القرآن قليلاً .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
“ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا ، وهو وإن كان في
التابعين أكثر منه في الصحابة ، فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم ، وكلما كان العصر
أشرف ، كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر” انتهى .
“مجموع الفتاوى” (13/332) .
ثالثاً :
أما
الآيات القليلة التي وقع في تفسيرها الخلاف ، فهي أيضا على أقسام :
القسم الأول : الخلاف فيها خلاف تنوّع وليس خلاف تضاد ، فهو خلاف لفظي غير مؤثر ،
وخلاف التنوع في حقيقته ليس اختلافا ، إذ من شرط الاختلاف تناقض القولين ، وهذا غير
واقع في هذا القسم من الخلاف .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شارحا اختلاف التنوع :
“وذلك صنفان :
أحدهما : أن يعبر كل واحد منهم – يعني من المفسرين – عن المراد بعبارة غير عبارة
صاحبه ، تدل على معنى في المُسَمَّى غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المُسَمَّى ، كما
قيل في اسم السيف : الصارم ، والمهند ، وذلك مثل أسماء الله الحسنى ، وأسماء رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وأسماء القرآن ، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد ، وكل
اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم ، وكذلك أسماء
النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل محمد ، وأحمد ، والماحي ، والحاشر ، والعاقب ،
وكذلك أسماء القرآن : مثل القرآن ، والفرقان ، والهدى والشفاء ، والبيان ، والكتاب
. وأمثال ذلك .
إذا
عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من
الصفة ما ليس في الاسم الآخر ، كمن يقول : أحمد : هو الحاشر ، والماحي ، والعاقب ،
والقدوس هو الغفور والرحيم ، أي أن المسمى واحد ، لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة ،
ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس .
مثال ذلك : تفسيرهم للصراط المستقيم .
فقال بعضهم : هو ” القرآن ” : أي اتباعه .
وقال بعضهم : هو ” الإسلام ” .
فهذان القولان متفقان ؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ، ولكن كل منهما نبَّه على
وصف غير الوصف الآخر .
كما
أن لفظ ( صراط ) يشعر بوصف ثالث ، وكذلك قول من قال : هو ” السنة والجماعة ” وقول
من قال : ” هو طريق العبودية ” وقول من قال : ” هو طاعة الله ورسوله ” صلى الله
عليه وسلم ، وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ؛ لكن وصفها كل منهم بصفة
من صفاتها .
الصنف الثاني : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه
المستمع على النوع ، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه .
مثل
سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ ” الخبز ” ، فأري رغيفا ، وقيل له : هذا . فالإشارة إلى
نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده .
مثال ذلك : ما نقل في قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)
فمعلوم أن ( الظالم ) لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات ، و (
المقتصد ) يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ، و ( السابق ) يدخل فيه من سبق
فتقرب بالحسنات مع الواجبات .
ثم
إن كلا منهم – يعني من المفسرين – يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات :
كقول القائل : السابق الذي يصلي في أول الوقت ، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه .
والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار .
ويقول الآخر :
السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة ، فإنه ذكر المحسن بالصدقة ،
والظالم بأكل الربا ، والعادل بالبيع .
فكل
قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على
نظيره ؛ فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق . والعقل السليم
يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له : هذا هو الخبز ” انتهى
باختصار.
“مجموع الفتاوى” (13/332-338) .
وقال أيضا رحمه الله :
“ينبغي أن يُعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين :
أحدهما : ليس فيه تضاد وتناقض ؛ بل يمكن أن يكون كل منهما حقا ، وإنما هو اختلاف
تنوع ، أو اختلاف في الصفات أو العبارات ، وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من
الصحابة والتابعين هو من هذا الباب ، فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسما مثل
قوله : (اهدنا الصراط المستقيم) فكل من المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة
يدل بها على بعض صفاته ، وكل ذلك حق … فيقول بعضهم : الصراط المستقيم : كتاب الله
، أو اتباع كتاب الله ، ويقول الآخر : الصراط المستقيم : هو الإسلام ، أو دين
الإسلام . ويقول الآخر : الصراط المستقيم : هو السنة والجماعة . ويقول الآخر :
الصراط المستقيم : طريق العبودية أو طريق الخوف والرجاء والحب وامتثال المأمور
واجتناب المحظور ، أو متابعة الكتاب والسنة ، أو العمل بطاعة الله ، أو نحو هذه
الأسماء والعبارات .
ومعلوم أن المسمى هو واحد وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته .
ومنه قسم آخر : وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التعيين والتمثيل
لا على سبيل الحد والحصر ، مثل أن يقول قائل مِن العجم : ما معنى الخبز ؟ فيشار له
إلى رغيف” انتهى باختصار .
“مجموع الفتاوى” (13/381-384) .
القسم الثاني : الآيات التي اختلف في تفسيرها اختلاف تضاد وتباين ، وهذا القسم قليل
، آياته معدودة ، والاختلاف فيها مشهور ومحصور .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
“الخلاف بين السلف في التفسير قليل ، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير
، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد” انتهى .
“مجموع الفتاوى” (13/178) .
ولوقوع هذا الاختلاف أسباب كثيرة ، يدرسها العلماء المتخصصون ، يمكن الرجوع إليها
في كتاب : ” أسباب اختلاف المفسرين ” للأستاذ الدكتور محمد الشايع ، وكتاب : ”
اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره ” للأستاذ الدكتور سعود الفنيسان .
رابعاً :
لا
يجوز أن يكون هذا القسم الثاني وهو خلاف التضاد ، مثار طعن ولا تشكيك في القرآن
الكريم لأسباب عدة :
1-
أنه
لم يقع في الآيات المتعلقة بعقائد الإسلام أو مقاصد التشريع ، بل إنما وقع في آيات
الأحكام ، مثل اختلاف العلماء في تفسير قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) البقرة/228 ، هل القرء هو الطهر
أم الحيض ؟ أو وقع في تفسير بعض سياقات القرآن المتعلقة بالقصص أو الوعظ ونحوه ،
كاختلافهم في تفسير قوله تعالى : (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي
قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) مريم/24، هل المنادي جبريل أم عيسى عليهما
السلام
. وهذا الاختلاف – كما ترى – لا يتعلق بصلب العقيدة والشريعة ، بل في أمر فقهي أراد
الله أن يقع فيه الخلاف رحمةًً بهذه الأمة ، وابتلاءً أيضا ، أو في أمر لا يتوقف
فهم سياق الآيات على معرفة معناه.
2-
وهذا الخلاف – على قلته – أغلبه واقع في القرون المتأخرة ، ولو رجعنا إلى تفسير
السلف من الصحابة والتابعين لما وجدنا أكثر هذا الخلاف الموجود في كتب التفسير
المتأخرة .
3-
وأخيرا ، فالله سبحانه وتعالى له الحكمة في خفاء معاني بعض الآيات ، كي يجتهد
المجتهدون ، ويثور العلم في الكتب والعقول .
خامساً :
أما
دعوى نفي الاختلاف في الإنجيل أو في تفاسير الإنجيل فهذه دعوى غريبة عجيبة لا
يدعيها النصارى أنفسهم ، لما فيها من مناقضة للواقع ، حيث تختلف نسخ الإنجيل
ورواياته وترجماته اختلافا كثيرا متناقضا ، كما تتكاثر فرق النصارى وخلافاتهم
الدينية ، واختلافهم في تفسيره واقع في صلب عقائدهم ، في تفسير التثليث والتوحيد
والأقانيم الثلاثة ، وهو اختلاف تضاد أدى إلى حدوث فرق كثيرة فيهم تختلف في أصل
الدين والعقيدة ، أما الإسلام والقرآن فليس بين علماء الإسلام من أهل السنة الذين
هم غالب الأمة من عهد الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا خلاف في أركان الدين وحقائقه
الرئيسية .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
“وتفاسير النصارى للكتب الإلهية فيها من التحريف لكتاب الله والإلحاد في أسماء الله
وآياته ما يطول وصفه ولا ينقضي التعجب منه” انتهى .
“الجواب الصحيح” (3/93) .
وقال أيضا :
“النصارى المقرون بأن هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح مختلفون في تفسير
هذا الكلام ، فكثير منهم يقول : الأب هو الوجود ، والابن هو الكلمة ، وروح القدس هو
الحياة . ومنهم من يقول : بل الأب هو الوجود ، والابن هو الكلمة ، وروح القدس هو
القدرة . وبعضهم يقول : إن الأقانيم الثلاثة : جواد ، حكيم ، قادر ، فيجعل الأب هو
الجواد ، والابن هو الحكيم ، وروح القدس هو القادر ، ويزعمون أن جميع الصفات تدخل
تحت هذه الثلاثة ، وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا ، ومنهم من يعبر عن
الكلمة بالعلم ، ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم ، وهم متفقون على أن المتحد
بالمسيح والحالّ فيه هو أقنوم الكلمة ، وهو الذي يسمونه الابن دون الأب ، ومن أنكر
الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول إن المسيح عليه السلام عبد مرسل كسائر الرسل
صلوات الله عليهم وسلامه ، فوافقهم على لفظ الأب والابن وروح القدس ، ولا يفسر ذلك
بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد ، كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا
اللفظ وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية .
فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه ، علم أنهم صدّقوا أولا باللفظ لأجل
اعتقادهم مجيء الشرع به ، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب كما يختلفون هم وسائر
أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء عليهم السلام”
انتهى باختصار .
”
الجواب الصحيح ” (3/189-192) .
والله أعلم .
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟