الأسباب الواردة في هبة سودة ليلتها لعائشة وبيان الراجح منها
السؤال: 127828
ذُكر أن النبي صلى الله عليه عرض على ” سودة بنت زمعة ” الطلاق عندما كبرت في العمر ، ولكنها رفضت ، ومن ثَمَّ أعطت يومها لعائشة رضي الله عنها .
يبدو لي أن هذا الفعل على إطلاقه هكذا لا يمكن أن يكون صدر من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أنه لا بد من أن يكون هناك خلفية لهذه القصة ، وهو الأمر الذي أريد أن تشرحوه لي .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
ثبت
في الصحيحين أن أم المؤمنين ” سودة بنت زمعة ” رضي الله عنها وهبت ليلتها لعائشة
رضي الله ، وهذا المقدار لا شك فيه من حيث الثبوت ، ولكن ما هو سبب هذا الفعل من أم
المؤمنين سودة رضي الله ؟ جاء ذلك على وجوه متعددة :
1.
قيل : إن ذلك كان بعد تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لها .
2.
وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم همَّ بتطليقها .
3.
وقيل : إنها ظنَّت أنه سيطلقها ، ولذا تنازلت عن ليلتها لعائشة ؛ لتبقى في عصمته
صلى الله عليه وسلم في الدنيا ، وتكون زوجة له في الآخرة ، فقبل منها ذلك صلى الله
عليه وسلم .
4.
وقيل : إنها أرادات بتلك الهبة رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كانت تعلم
محبته لعائشة رضي الله عنها ، وهذان السببان هما أصح ما ورد من الأسباب لذلك الفعل
منها رضي الله عنها .
أ.
أما ما ورد أنها رضي الله عنها وهبت ليلتها لعائشة بعد أن طلقها النبي صلى
الله عليه وسلم : فهي رواية ضعيفة .
قال
ابن الملقِّن – رحمه الله – :
وَهَذِه رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه : ” أَنه عَلَيْهِ
السَّلَام طلَّق سودةَ ، فلمَّا خرج إِلَى الصَّلَاة أمسكتْهُ بِثَوْبِهِ ، فقالتْ
: مَا لي فِي الرِّجال حَاجَة ، وَلَكِنِّي أُرِيد أَن أُحْشَرَ فِي أَزوَاجك ،
قَالَ : فراجَعَهَا ، وَجعل يَوْمهَا لعَائِشَة ، فَكَانَ يِقَسْم لَهَا بيومها ،
وَيَوْم سَوْدَة ” .
وَهَذَا مَعَ إرْسَاله : فِيهِ أَحْمد العطاردي ، وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِيهِ ،
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَا بَأْس بِهِ ، وَقَالَ ابْن عدي : رَأَيْتهمْ
مُجْمِعِينَ عَلَى ضعفه ، وَقَالَ مُطيَّن : كَانَ يكذب .
”
البدر المنير ” ( 8 / 48 ) .
وكذبه رحمه الله ليس في الحديث ، وإلا كان حديثه موضوعاً ، وقد بيَّنه الإمام
الذهبي رحمه الله فقال إنه كذب في لهجته ، لا في روايته .
قال
رحمه الله :
قُلْت : يَعنِي فِي لَهْجَتِهِ ، لاَ أَنَّه يَكْذِبُ في الحَديثِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ
لَمْ يُوجَد مِنهُ ، وَلاَ تَفَرَّدَ بِشَيْءٍ ، وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّهُ صَدوقٌ
فِي بَابِ الرِّوَايَةِ : أَنَّه رَوَى أَوْرَاقاً مِنَ ” المَغَازِي ” بِنُزُولٍ ،
عَن أَبِيهِ ، عَن يُونُسَ بنِ بُكَيْرٍ ، وَقَد أَثنَى عَلَيهِ الخَطِيبُ ،
وَقَوَّاهُ ، وَاحتَجَّ بِهِ البَيْهَقِيُّ فِي تَصَانِيْفِهِ .
”
سير أعلام النبلاء ” ( 25 / 55 ) .
وثمة رواية أخرى نحوها قال عنها الحافظ ابن كثير في ” التفسير ” ( 2 / 427 ) :
غريب ، مرسل .
ب.
وأما القول بأن سودة وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنهما لما همّ النبي صلى
الله عليه وسلم بطلاق سودة : فلم نره في حديث ، بل كان فهماً من بعض
المفسرين، والعلماء ، ومن ذلك:
قال
الماوردي – رحمه الله – في بيان سبب نزول
قوله تعالى : ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً )
–
:
أحدهما : أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همَّ بطلاق سودة بنت زمعة
، فجعلت يومها لعائشة على ألا يطلقها ، فنزلت هذه الآية فيها ، وهذا قول السدِّي .
”
تفسير الماوردى ” ( 1 / 533 ) .
ج.
وأما ما ورد أنها رضي الله عنها خشيت من تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لها
فقد ثبت في أحاديث صحيحة :
عَنْ عروة بن الزبير قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ
زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ ، وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ ، فَقَبِلَ
ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ، قَالَتْ :
نَقُولُ : فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي أَشْبَاهِهَا – أُرَاهُ
قَالَ – : ( وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً ) .
رواه أبو داود ( 2135 ) ، وصححه الألباني في ” صحيح أبي داود ” .
وعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : ” لَا تُطَلِّقْنِي ،
وَأَمْسِكْنِي ، وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ ، فَفَعَلَ ، فَنَزَلَتْ : ( فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) .
رواه الترمذي ( 3040 ) وصححه الألباني في ” صحيح الترمذي ” .
د.
وأما ما ورد أن سودة وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها ساعية لرضا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقد ثبت ـ أيضا ـ عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ” غَيْرَ
أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، لِعَائِشَةَ
زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم ” رواه البخاري ( 2453 ) .
هذه
الآثار واضحة من كلام عائشة رضي الله عنها أن ” سودة ” إنما خافت أن يطلقها النبي
صلى الله عليه وسلم بسبب كبر سنِّها ، وليس أنه باشر طلاقها فعلاً ، وما ورد أنه
فعل ذلك : مرسل ضعيف لا يصح ، ولم يرد أنه همَّ بطلاقها لأجل كبر سنِّها
.
وأمر آخر : أن النبي صلى الله عليه لم يتزوجها أصلاً من أجل صغر سنِّها ، ولا من
أجل الشهوة ، فقد كانت كبيرةً في السنِّ حين تزوجها ، وكل نسائه لمَّا تزوجهن كنَّ
ثيبات ، وذوات أولاد ، إلا عائشة رضي الله عنها ، فلم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم
صاحب شهوة يبحث عن أبكار وصغيرات ليتزوجهن ، ثم إن كبرن طلَّقهن ، وكل من علم شيئا
من سيرته وحاله : قطع بذلك ، ونزهه عن إفك الأفاكين .
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ : ( إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ
الَّذِي هُوَ أَهْنَاهُ وَأَهْدَاهُ وَأَتْقَاهُ ) .
رواه ابن ماجة في مقدمة سننه (20) ، وقال البوصيري : “هذا إسناد صحيح ، ورجاله محتج
بهم في الصحيحين”. انتهى . “مصباح الزجاجة” (1/47) .
وروي ذلك ـ أيضا ـ عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه .
قال
السندي رحمه الله : ” أَيْ الَّذِي هُوَ أَوْفَق بِهِ مِنْ غَيْره ، وَأَهْدَى
وَأَلْيَق بِكَمَالِ هُدَاهُ ، وَأَتْقَاهُ : أَيْ وَأَنْسَب بِكَمَالِ تَقْوَاهُ ”
انتهى .
والله أعلم
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟