إذا كنت متطوعا وأنا مؤمن بأن الله لا يفرق بين البشر على أساس العرق وسؤالي أليس اصطفاء بشر ليكون رسولا تفرقة بين البشر؟ أرجو أن تجيبوا على سؤالي لأنني ارتكب المعصية .
الله يصطفي من الناس رسلا بفضله وعلمه وحكمته
السؤال: 131116
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
إننا لنأسف جداً من كَمِّ الأسئلة التي يعترض بها أصحابها على أحكام الله تعالى ، وخلقه ، وتدبيره للكون .
ومما يزيد الأسى والحزن أن تكون هذه الأسئلة موجهة من مسلمين ، المفترض فيهم أن يكونوا عبيداً لله ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من المعاني ، فيسارعون إلى تنفيذ أوامر الله ، والكف عما نهاهم عنه ، ويسلمون لأحكامه ، وتنشرح بها صدورهم ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) ، وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
لقد خُدع المسلمون بشعارات رفعها أعداؤهم ، كـ “المساواة” وظنوا أنها شعار صحيح ، يحقق العدل بين البشر ، والواقع بخلاف هذا .
فهذا الشعار المزيف لا يوجد من يطبقه تطبيقاً مجرداً من كل شرط أو قيد ، فلا يمكن أن يسوى بين الكبير والصغير ، والمرأة والرجل ، والعالم والجاهل ، والمجنون والعاقل ، والقائد والجندي ، والعدو والصديق ، والمؤمن وغير المؤمن . ومن ادعى بلسانه أنه يدعو للمساواة بين كل هؤلاء ، فهي مجرد دعوى ، وتطبيقه العملي يخالف ما يدعو إليه ويكذبه ولابد .
ولهذا جاء شرعنا بـ “العدل” الذي هو وضع الشيء في موضعه اللائق به ، ولم يأت بالتسوية المطلقة بين البشر في كل شيء ، وإنما هو جاء بالعدل ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) ، وقال تعالى : (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) .
وميزان العدل عندنا ـ نحن المسلمون ـ هو حكم الله ، فحكم الله هو العدل ، ومن حكم به فهو العادل ، ومن حَكَمَ بغيره فهو الظالم ، حتى وإن رآه الناس عدلاً ، قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) .
وأحكام الله تعالى وتقديراته دائرة بين العدل والفضل ، ولا يمكن أن ينسب شيء من الظلم ـ مهما كان يسيراً ـ إلى الله تعالى .
قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) وقال : (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) ، وقال تعالى في الحديث القدسي : (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) رواه مسلم (2577) .
فالواجب على المؤمن أن ينظر إلى أحكام الله تعالى على أنها عدل أو فضل .
ومن الأخطاء الفادحة التي يقع فيها بعض الناس : أنه يُؤصِّل أصلاً ، ويرى أن هذا الأصل حق لا ريب فيه ـ وقد يكون الأمر بخلاف هذا ـ ثم يريد أن يحكم على الله تعالى بهذا الأصل .
والله تعالى لكمال علمه وحكمته وقدرته وسلطانه لا يملك أحد أن يسأله : لم فعل؟ قال الله تعالى : (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) .
ثالثاً :
قول السائل : “أنا مؤمن بأن الله لا يفرق بين البشر على أساس العرق” هذا بالنسبة للثواب والعقاب : صحيح ، فالبشر كلهم سواء عند الله تعالى من حيث الثواب والعقاب ، والحسنات والسيئات ، فميزان التفضيل والإكرام هو طاعة الله تعالى ، فمن أطاع الله تعالى أحبه الله وأكرمه وقربه ، ومن عصى الله تعالى كان مستحقاً للعقاب والإبعاد ، قال الله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى) رواه أحمد (22978) وصححه الألباني في “شرح العقيدة الطحاوية” .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “منهاج السنة النبوية” :
“وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة ، ومدح الله عز وجل للشخص المعين ، وكرامته عند الله فهذا لا يؤثر فيه النسب ، وإنما يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح ، وهو التقوى ، كما قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)” انتهى .
وقال أيضاً :
“ودين الإسلام إنما يفضل الإنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه ولو كانوا من بني هاشم أهل بيت النبي ، فإن الله خلق الجنة لمن أطاعه ، وإن كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفا قرشيا ، وقد قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وفى السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أسود على أبيض ، ولا لأبيض على أسود ، إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب) ….
وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى ، وإن كان الأول أسود حبشياً ، والثاني عَلَويًا أو عباسيا” انتهى .
“مجموع الفتاوى” (28/543) .
وقال أيضاً :
” تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية الذي اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل ، ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يُمدح فيها أحدٌ بنسبه ، ولا يُذم أحدٌ بنسبه ، وإنما يُمدح بالإيمان والتقوى ، ويُذم بالكفر والفسوق والعصيان” انتهى .
“مجموع الفتاوى” (35/231) .
غير أن الله تعالى فضَّل بعض أجناس بني آدم على بعض ، فجعل العرب أفضل من غيرهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وشرع الله تعالى أحكاماً خاصة بالعرب أو ببعضٍ منهم ، تدل على فضلهم .
منها : تخصيص الإمامة العظمى (الخلافة) بقريش .
ومنها : تحريم الصدقة على بني هاشم .
ومنها : أنه جعل لبني هاشم وبني المطلب جزءاً من الغنيمة .
وانظر لبيان ذلك : “اقتضاء الصراط المستقيم” (1/148 – 163) .
ثم قول السائل : “أليس اصطفاء بشر ليكون رسولاً تفرقه بين البشر”؟
فيقال له : فماذا تريد حتى تتحقق المساواة التي تريدها؟
يلزم على كلامك أحد أمرين :
إما أن يرسل الله تعالى جميع الناس !
وإما أن لا يرسل أحداً البتة .
وكلا الأمرين باطل بلا شك .
وإذا بطل هذان الأمران ، لم يبق إلا أن يختص الله تعالى بعض الناس ويختاره للرسالة .
وهذا الاختيار تفضيل من الله تعالى لبعض البشر بلا شك ، وهو تفضيل مبني على كمال العلم والحكمة ، ولا ظلم فيه بوجه من الوجوه .
فالله تعالى يختار لحمل رسالته من هو أهل لها ، ويمنعها ممن لا يستحقها ، ولا يقوم بأعبائها، وهذا هو العدل والحكمة .
فهل ترى أيها السائل ، أنك أهل للرسالة؟ وأن الله ـ تعالى عن ذلك ـ ظلمك حيث لم يجعلك رسولا؟
أترى نفسك من صفوة البشر كأنبياء الله ورسله وأنت لم تُسَلِّم لأحكام الله وقضائه وقَدَره ، وتعترض على أفعاله ، وتقول عن نفسك : إنك تعصي الله ؟
فهل ترى نفسك بعد كل ذلك أهلاً للرسالة ؟
ولهذا قال الله تعالى : (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) الأنعام/124 .
قال ابن كثير :
“أي : هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه” انتهى .
“تفسير ابن كثير” (3/332) .
وقال ابن جرير :
“يقول جل ثناؤه : فأنا أعلم بمواضع رسالاتي ، ومن هو لها أهل ، فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم ؛ لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه ، والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته” انتهى .
“تفسير الطبري” (12/96) .
وقال السعدي :
“وفي هذا اعتراض منهم على الله ، وعجب بأنفسهم ، وتكبر على الحق الذي أنزله على أيدي رسله ، وتحجر على فضل الله وإحسانه .
فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد ، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير ، ولا فيهم ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين ، فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين ، فقال : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فمن علمه يصلح لها ، ويقوم بأعبائها ، وهو متصف بكل خلق جميل ، ومتبرئ من كل خلق دنيء ، أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصلا وتبعا ، ومن لم يكن كذلك ، لم يضع أفضل مواهبه عند من لا يستأهله ، ولا يزكو عنده .
وفي هذه الآية دليل على كمال حكمة الله تعالى ، لأنه وإن كان تعالى رحيما واسع الجود ، كثير الإحسان ، فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله” انتهى .
“تفسير السعدي” (ص 271) .
وقال الله تعالى : (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الزخرف/31 ، 32 .
قال ابن كثير :
“أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد” انتهى .
“تفسير ابن كثير” (2/29) .
وبهذا يتبين أن تفضيل الله تعالى لبعض البشر بالنبوة والرسالة مبني على العلم والحكمة ، وليس من أجل الجنس أو العرق .
ثم إن الرسل أنفسهم قد فضَّل الله بعضهم على بعض ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) الإسراء/55 ، وقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة/253 .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا التسليم والانقياد لأحكامه .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب