إذا رأوه يفعل معصية طالبوه بترك الدين بالكلية!!
السؤال: 132264
بادئ ذي بدئ أشكر لكم جهدكم المبارك ، وأسأل الله عز وجل أن يجعل ما تقدمونه في موازين حسناتكم يوم القيامة .
هناك شبهة من تلبيس إبليس على بعض الناس ، وهي أنهم يرددون مقولة : ” إما أن تأخذ الدين بأكمله ، أو تتركه ، ولا تتزين به ” ! ، والسبب في ذلك : مخالطتهم ، ومعرفتهم لأشخاص حولهم سَمْتهم الالتزام بأحكام الشرع ، وواجباته ، لكن لديهم تقصير ، ومخالفة ، ونقص في أمور أخرى ! فهلاَّ حررتم لنا جواباً شافياً في رد هذه الشبهة ، ودحض هذه الحجة ؛ لأنها منتشرة ، وأثرها خطير ، وهي من تلبيس إبليس ! .
شكر الله لكم ، وزادكم من معين رحمته ، وجود فضله .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً :
جزاك الله خيراً – أخي السائل – ، وجعلنا وإياك مفاتيح للخير ، مغاليق للشر .
لا
شك أن هذه القضية تجول في خاطر كثيرٍ من الناس , ولعل كثيراً منهم يرغب عن طريق
الاستقامة ، أو يتأخر التحاقه بالطريق لهذه الشبهة التي ذكرتها .
ثانياً :
إن
الصراع بين الخير والشر مستمر منذ خلق الله آدم , فقد استكبر إبليس عن الانقياد
لأمر الله ، فلم يسجد لأدم ، وأقسم أنه سيسعى في إضلال بني آدم : (ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) الأعراف/ 17 ، فلا يزال
إبليس يلقي للناس الشبهة بعد الشبهة ، ليصدهم بذلك عن الهدى .
ثالثاً :
عدم
الكمال من طبيعة البشر ؛ ومهما بلغ الإنسان من العلم ، والتقوى ، والإيمان : فوقوع
الذنب منه ، والمعصية ، والتقصير : غير مستبعد , ولذلك لما ذكر الله ما أعده
للمتقين بيَّن شيئاً من صفاتهم ، ومنها : المسارعة إلى التوبة ، والاستغفار ، وهذا
دليل أن التقي قد تقع منه الهفوة ، والزلة ، أو يقع منه التقصير ، قال تعالى :
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
) آل عمران/ 133 – 135 . فهؤلاء أهل الجنة المتقون ، ولكن … قد يزل أحدهم فيقع في
فاحشة ، ولكنه سرعان ما يتوب ويرجع إلى الله .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ
اللَّهُ بِكُمْ ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ
فَيَغْفِرُ لَهُمْ) رواه مسلم (2749) .
رابعاً :
هذا
، وإن طريق الاستقامة طريق شاق ، ويحتاج إلى مجاهدة ، وصبر ؛ فالإنسان في هذا
الطريق يصارع هوى النفس ، والشيطان ، والشهوات ، والشبهات ، ويبقى بين صدٍّ وردٍّ ،
وقُرب وبُعد ، ولكن بالصبر ، والعلم ، والجهاد ، يبلغ غايته ، كما قال تعالى :
(والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنَا) العنكبوت/ 69 .
وعَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ
بِأَطْرُقِهِ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ : تُسْلِمُ وَتَذَرُ
دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ ، فَعَصَاهُ ، فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ
قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ : تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ
وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ ،
فَعَصَاهُ ، فَهَاجَرَ ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ :
تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ
الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ ، فَعَصَاهُ ، فَجَاهَدَ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا
عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ
حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَإِنْ غَرِقَ
كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ وَقَصَتْهُ
دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) رواه النسائي
(3134) وصححه الألباني في “صحيح النسائي” .
وإذا كانت تلك هي حال المسلم مع الشيطان في صراعه معه ، وإذا عُلم أن المسلم لن
تخلو حياته من زلة ، أو تقصير : تبين بطلان ذلك القول الجريء في أنه إما أن يستقيم
المسلم على أمر الله بالكلية ، أو يدع الاستقامة بالكلية ! ففيه من الافتراء على
الشرع ما يستوجب الإثم على قائله ، وعلى من تفوه به التوبة ، والاستغفار ، والندم
عليه ؛ لأن صاحب ذلك القول يدعو للفجور ، وارتكاب المحرمات ؛ لأنه لن يكون في
استطاعة أحد أن يستقيم على أمر الله تعالى بكليته ، فصار المطلوب – على حسب ذلك
القائل – أن يترك الاستقامة المستطاعة ليفعل كل محرَّم نهى الله عنه ، ويترك كل
واجب يستطيع المسلم فعله ! وهذا بلا شك زندقة ظاهرة ، ودعوة للفجور ، وقطع لكل
فضيلة .
خامساً :
نعم
، يُطلب من المسلم أن يدخل في الإسلام كافة ، وينهى عن ارتكاب ما نهى الله عنه ،
لكن ماذا طلب الله ممن خالف ذلك ؟! طلب منهم التوبة ، والاستغفار ، فعل الأوامر ،
وعدم الاستمرار في تركها ، وترك النواهي ، وعدم الاستمرار في فعلها ، والآيات في
ذلك أشهر من أن تُذكر .
ومن
طلب من فاعل المعصية الواحدة أن يزيد عليها بفعل كل معصية ، وأن يترك كل واجب أوجبه
الله عليه : فهو فاعل لما يضاد أمر الله تعالى ، وهو غير داخل في سلك المؤمنين ؛
لأن من صفات المؤمنين : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومثل هذا آمر بالمنكر
، ناهٍ عن المعروف ! .
فالذي يفعل معصية ينصح بالتوبة منها ، والاستقامة على أمر الله ، لا أن يؤمر
بارتكاب غيرها من المعاصي .
سادساًً :
إن
ما يقع فيه بعض أهل الاستقامة من مخالفة الشرع ، في فعل محرَّم ، أو ترك واجب : لا
يجعل غيره يحذو حذوه ، بل يجعله يعتبر به لئلا يقع منه مثل فعله ، ويجعله يحمد ربه
على العافية في دينه أن سلَّمه ربه تعالى من الفتنة ، ولا ينبغي أن يدعوه ذلك إلى
اليأس ، وترك الاستقامة على أمر الله ؛ فإنه إن فعل ذلك صار أشدَّ إثماً ، وأكثر
بُعداً عن الله تعالى ، وصار ما أنكره على غيره من الوقوع في المعصية لا شيء
بالنسبة لما وقع هو فيه .
والإنسان رهين عمله ، كما قال تعالى : (كلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)
المدثر/ 38 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ
نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا ، أَوْ مُوبِقُها) رواه مسلم (223) .
والقدوة والأسوة للمسلمين ليس هو فلان ، أو فلان ، إنما هو نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم ، وهو الذي يكون للمسلم أسوة حسنة ، يقتدي بفعله ، ويهتدي بهديه ، ولا
يغتر المسلم بما يكون عليه حال غيره من الصلاح فقد يُختم له بسوء ، كما لا يتسرع
بالحكم على صاحب المعاصي بالهلاك ، فقد يُختم له بخير ، وإنما الأعمال بالخواتيم .
قال
أنس رضي الله عنه : (لا تعجبوا لعمل رجلٍ حتى تعلموا بما يختم له به ؛ فقد يعمل
الرجل برهة من دهره ، أو زماناً من عمره عملاً سيئاً ، لو مات عليه : مات على شر ،
فيتحول إلى عمل صالح فيُختم له به , وقد يعمل العبد برهة من دهره ، أو زماناً من
عمره عملاً صالحاً ، لو مات عليه : مات على خير ، فيتحول إلى عملٍ سيءٍ فيختم له به)
رواه أحمد في “مسنده” (3/223) ، وصححه محققوه .
وعلى الإنسان في سيره إلى الله أن يحاول أن يبلغ الغاية ، والكمال ، وأن يجاهد نفسه
في سبيل تحقيق ذلك ، وأن يجعل الغاية مرضاة الله ، وليغض نظره عن أفعال الناس ،
وأعمالهم ، إلا أن يستفيد فيعتبر ، أو يتعظ ، إن فعل غيرُه معصية ، أو يستفيد بالحث
على أن يفعل كفعله إن رآه على طاعة ، وخير ، وكل إنسان مسؤول عن عمله لا عن عمل
غيره .
والله أعلم
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟