الجمع بين حديثي ( لأعلمن أقواماً يأتون بحسنات ) و ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين )
السؤال: 134636
كيف نستطيع الجمع بين الحديثين الشريفين:
( أناس من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة فيجعلها الله هباء منثوراً ) ، قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين إذا خلو بمحارم الله انتهكوها ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، وبين قوله صلى الله عليه وسلم ( كل أمتي معافى إلا المجاهرون ) .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
نص الحديثين موضع الإشكال :
أ.
عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لأَعْلَمَنَّ
أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ
جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا
) قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ
لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُمْ
إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ
وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) .
رواه ابن ماجه ( 4245 ) ، وصححه الألباني في ” صحيح ابن ماجه ” .
الهباء في الأصل : الشَّيءُ المُنْبَثُّ الَّذي تَراه في ضَوْء الشمسِ .
محارم الله : هي كل ما حرَّمه الله تعالى من المعاصي ، الصغائر ، والكبائر .
ب.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ
مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ
وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ
كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ
اللَّهِ عَنْهُ ).
رواه البخاري ( 5721) ومسلم ( 2990 ) .
ثانياً:
قد
استشكل كثير من الناس الجمع بين هذين الحديثين ، وتعددت أماكن سؤالهم عن ذلك الجمع
،
ونذكر
ما تيسر من أوجه الجمع بينهما ، سائلين الله تعالى التوفيق ، فنقول :
إن
الذي دعا إلى استشكال الحديثين هو ما حواه معناهما مما ظاهره التعارض ، فإن الحديث
الأول ليس فيه أن أصحاب المعاصي قد جاهروا بمعاصيهم ، وبمقتضى الحديث الثاني فهم ”
معافوْن ” ، فكيف تحبط أعمالهم ، ويتوعدون بالسخط والعذاب ؟! ومن هنا جاء الإشكال
في ظاهر الحديثين ، فذهب العلماء في الجمع بينهما مذاهب شتَّى ، ومن ذلك :
1.
القول بتضعيف حديث ثوبان ، وقد علَّله بعضهم فضعَّف سنده بالراوي ”
عقبة بن علقمة المعافري ” ، وحكم على متنه
بالنكارة .
أ.
ويرد على تضعيف سنده :
بأن
الراوي عقبة بن علقمة وثَّقه كثيرون ، وممن وثقه : ابن معين ، والنسائي ، ومن حكم
على رواياته بالرد فإنما هو إذا روى عنه ابنه ” محمد ” ، أو روى هو عن ” الأوزاعي ”
، وهذا قول الأئمة المحققين في حاله ، وليست روايته في هذا الحديث عن الأوزاعي ،
ولا رواه عنه ابنه محمد ، فالسند حسن على أقل أحواله .
ب.
ويرد على نكارة متنه بأن له نظائر معروفة ، كما في قوله
تعالى : ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) النساء/ 108 .
وهو
وإن لم يكن فيه حبوط أعمال أولئك بلفظ الآية ، إلا أنه يُعرف ذلك بمعناها .
قال ابن كثير رحمه الله:
هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس ؛ لئلا
ينكروا عليهم ، ويجاهرون الله بها ؛ لأنه مطّلع على سرائرهم ، وعالم بما في ضمائرهم
،
ولهذا قال : ( وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا )
تهديد لهم ، ووعيد .
”
تفسير ابن كثير ” ( 2 / 407 ) .
2.
أن حديث ثوبان في المنافقين ، وحديث أبي هريرة في المسلمين ، فلا تعارض بينهما ، لا
سيما إذا حملنا النفاق هنا على النفاق العملي الذي لا ينافي أخوة الإيمان .
والواقع أن المتأمل في حال بعض من يقع في المنكرات هذه الأيام من أهل الخير والصلاح
الظاهر ، وباعتراف من يتوب منهم يجد عجباً ، من ارتكاب ذنوب ” الخلوات ” بشكل يمكن
إطلاق وصف ” انتهاك ” عليه ! فمن هؤلاء من تكون خلواته في مشاهدة الفضائيات الفاسدة
، والنظر في الإنترنت إلى مواقع الجنس الفاضح ، واستعمال أسماء مستعارة للمحادثة
والمراسلة مع الأجنبيات ، ثم تجد هؤلاء لهم نصيب في الظاهر من الاستقامة ، في
اللباس ، والصلاة ، والصيام ، ومن هنا كان هذا الحديث محذِّراً لهؤلاء أن يكون
حالهم حال المنافقين ، أو أن يكونوا أعداء لإبليس في الظاهر ، أصدقاء له في السرِّ
، كما قال بعض السلف .
قال
ابن حجر الهيتمي رحمه الله:
الكبيرة السادسة والخمسون بعد الثلاثمائة : إظهار زي الصالحين في الملأ ، وانتهاك
المحارم ، ولو صغائر في الخلوة : أخرج ابن ماجه بسند رواته ثقات عن ثوبان رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لأعلمنَّ أقواماً مِن أمتي يأتون ….
) .
لأن من كان دأبه إظهار الحسن ، وإسرار القبيح : يعظم ضرره ، وإغواؤه للمسلمين ؛
لانحلال ربقة التقوى ، والخوف ، من عنقه .
” الزواجر عن اقتراف الكبائر ” ( 2 / 764 ) .
3.
قوله صلى الله عليه وسلم ( إِذَا خَلوا بِمَحَارِمِ الله ) لا يقتضي خلوتهم في
بيوتهم وحدهم ! بل قد يكونون مع جماعتهم ، ومن على شاكلتهم ، فالحديث فيه بيان
خلوتهم بالمحارم ، لا خلوتهم مع أنفسهم في بيوتهم ، فليس هؤلاء بمعافين ، والمعافى
الذي في حديث أبي هريرة الذي يظهر لنا أنه يفعل المعصية الغالبة عليه وحده ، ولذا
جاء في الحديث أنه شخص بعين ، وأن ربَّه قد ستره ، (يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ
عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ) ، وحديث ثوبان فيه
الجمع ( قوْم ) و ( خَلَوا ) .
قال
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله:
الذي يبدو أن ( خلوا بمحارم الله ) ليس معناها ” سرّاً ” ، وإنما : إذا سنحت لهم
الفرصة انتهكوا المحارم ، فـ ” خلَوا ” ليس معناها ” سرّاً ” ، وإنما من باب ” خلا
لكِ الجو فبيضي واصفري ” .
”
سلسلة الهدى والنور ” شريط رقم ( 226 ) .
7.
وصف هؤلاء المذكورون في حديث ثوبان بأنهم “ينتهكون” محارم الله ، وهو وصف يدل على
استحلالهم لذلك ، أو مبالغتهم فيها في هذه الحال ، وأمنهم من مكر الله ، وعقوبته ،
وعدم مبالاتهم باطلاعه عليهم . فلذا استحقوا العقوبة بحبوط أعمالهم ، وليس الوعيد
على مجرد الفعل لتلك المعصية ، ولعله لذلك سأل ثوبان رضي الله عنه النبيَّ صلى الله
عليه وسلم أن يجلِّي حال أولئك ، وأن يصفهم ؛ خشية أن يكونوا منهم ، وهم لا يدرون ،
ومثل هذا إنما هو طلب لمعرفة حال قلوب أولئك العصاة ، وليس لمعرفة أفعالهم مجردة .
قال
الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله
:
أي
: أن عندهم استهتاراً ، واستخفافاً بالله عز وجل ، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي
مع الانكسار ، والمعصية التي تأتي بغير انكسار ، بين شخص يعصي الله في ستر ، وبين
شخص عنده جرأة على الله عز وجل ، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء ، وإن كانت
أمثال الجبال ، فإذا كان بين الصالحين : أَحْسَنَ أيما إحسانٍ ؛ لأنه يرجو الناس
ولا يرجو الله ، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال ، فظاهرها حسنات ، ( لكنهم إذا خلوا
بمحارم الله انتهكوها ) فهم في السر لا يرجون لله وقاراً ، ولا يخافون من الله
سبحانه وتعالى ، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر ، ويكره هذه المعصية ،
ويمقتها ، ويرزقه الله الندم ، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر وعنده الندم ،
والحرقة ، ويتألم : فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل ؛ لأنه – في الأصل – معظِّم
لشعائر الله ، لكن غلبته شهوته ، فينكسر لها ، أما الآخر : فيتسم بالوقاحة ،
والجرأة على الله ؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص ، أو شخصين ، ولا يتحدث عن نص محدد ،
إنما يعطي الأوصاف كاملة .
مِن
الناس مَن إذا خلا بالمعصية : خلا بها جريئاً على الله ، ومنهم من يخلو بالمعصية ،
وهو تحت قهر الشهوة ، وسلطان الشهوة ، ولو أنه أمعن النظر وتريث : ربما غلب إيمانُه
شهوتَه ، وحال بينه وبين المعصية ، لكن الشهوة أعمته ، والشهوة قد تعمي وتصم ، فلا
يسمع نصيحة ، ولا يرعوي ، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان ، قال تعالى : (
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا
اللَّهُ عَنْهُمْ ) آل عمران/ 155 ، فإذا حصل الاستزلال من الشيطان ، فزلت قدم
العبد ، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية ، والله يعلم أنه لما وقع في المعصية
أنه نادم ، وأنه كاره لها ، حتى إن بعضهم يفعل المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه
مات قبل أن يفعلها : فهذا معظِّم لله عز وجل ، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول
بينه وبين المعصية ، وقد يكون سبب ابتلاء الله له أنه عيَّر أحداً ، أو أنه عق
والداً ، أو قطع رحمه ، فحجب الله عنه رحمته ، أو آذى عالماً ، أو وقع في أذية ولي
من أولياء الله ، فآذنه الله بحرب ، فأصبح حاله حال المخذول ، مع أنه في قرارة قلبه
لا يرضى بهذا الشيء … .
فالذي يعصي في السر على مراتب
: منهم من يعصي مع وجود الاستخفاف ، فبعض العُصاة تجده لما يأتي إلى معصية لا يراه
فيها أحد : يذهب الزاجر عنه ، ويمارسها بكل تهكم ، وبكل وقاحة ، وبكل سخرية ، ويقول
كلمات ، ويفعل أفعالاً ، ولربما نصحه الناصح ، فيرد عليه بكلمات كلها وقاحة ، وإذا
به يستخف بعظمة الله عز وجل ، ودينه ، وشرعه ، لكنه إذا خرج إلى الظاهر صلى ، وصام
، وإذا خلا بالمعصية لا يرجو لله وقاراً – والعياذ بالله – فليس هذا مثل من يضعف
أمام شهوة ، أو يفتن بفتنةٍ يراها ، ويحس أن فيها بلاء ، وشقاء ، ويقدم عليها ،
وقلبه يتمعر من داخله ، ويتألم من قرارة قلبه ، ثم إذا أصاب المعصية ندم .
…
.
فهذا الحديث – أي : حديث ثوبان – ليس على إطلاقه ، وإنما المراد به : من كانت عنده
الجرأة – والعياذ بالله – ، والاستخفاف بحدود الله .
”
شرح زاد المستقنع ” ( رقم الدرس 332 ) .
نسأل الله أن يحبب إلينا الإيمان ، وأن يزينه في قلوبنا ، ونسأله أن يبغِّض إلينا
الكفر ، والفسوق ، والعصيان .
والله أعلم
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟