لقد وقعت على هذه الروايات في جمع المصحف العثماني :
روي أن عثمان بعد مراجعة أول نسخة من القرآن قال : إنني أرى أخطاء لغوية فيه ، وإن العرب سوف يقرؤونه بالطريقة الصحيحة لأنه نزل على لسانهم .
ثم قيل بعد ذلك ، إن ابن الخطيب الذي ذكر لنا الرواية السابقة في كتابه ” الفرقان ” ذكر رواية أخرى عن عائشة ، أن واحدة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم قالت : إن هناك ثلاثة أخطأ لغوية في القرآن ، في مثل قوله تعالى : ( قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضهما……)
وقوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم والآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
وفي قوله تعالى : ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما )
وقد قرأت دحض هذه الشبهات في كتاب ” قراءات القرآن ” لأحمد علي الإمام ، ولكنني رأيت أن هذه القراءات قد وضعت من قبل المبشرين بالمسيحية ، وإنني أريد منكم أن تلقوا بعض الضوء في تأكيد هذه الروايات . جزاكم الله خيرا.
روايات مكذوبة تنسب إلى القرآن الكريم بعض الأخطاء اللغوية
السؤال: 135752
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لا يسعنا في الجواب على هذا السؤال أن نخفي عجبنا البالغ من استمراء هذه الشبهة على كثير من الباحثين والمثقفين ، بل ولا أن نخفي عجبنا من طروء هذه الشبهة أصلا ، ليس من باب التسليم لعصمة القرآن الكريم بحفظ الله له فحسب ، وإنما لما نراه من وهاء هذه الشبهة وسقوطها في مقاييس العقل والحكمة والمنطق السليم .
ونحن نوجز بيان ذلك بالنقاط الآتية :
أولا :
إذا عرفنا أن القواعد الإعرابية والقضايا النحوية إنما هي مبنية تبعا لأساليب الكلام التي تنقل إلينا من عصور الاحتجاج ، ولا يختلف اللغويون في أن عصر الرسالة هو من عصور الاحتجاج ، فكل كلمة تنقل إلينا نقلا صحيحا هي حجة لغوية صحيحة ، بل وقاعدة من قواعد النحو العربي .
ثانيا :
لتوضيح ذلك أيضا نقول : هل يجوز لباحث أن يأتي إلى بعض أبيات امرئ القيس التي تناقلها العلماء بالتسليم ، فيرى فيها خطأ نحويا أو لغويا في نظره ، فيحكم على امرئ القيس باللحن والخطأ ؟!!
ألا يكون في ذلك مصادرة لقواعد أصول النحو التي بني عليها ، وهدم لأسس هذا العلم نفسه ؟!!
فكيف إذا حكم أحد الجاهلين بخطأ القرآن الكريم لغويا أو نحويا وقد تناقله الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان في زمن الاحتجاج والكلام العربي الفصيح ، بل وتناقله العلماء والنحاة وأهل الفصاحة والبيان من غير نكير بينهم ، اللهم إلا في بعض الوجوه والقراءات التي لم تنقل لبعض النحاة على وجه التواتر .
ألا يكون هذا الجاهل أولى بالنكير والتخطئة ممن يحكم بخطأ العرب الأقحاح الذين تستنبط قواعد اللغة من كلامهم وبيانهم ؟!!
ثالثا :
وإذا تأمل الناظر في الآيات التي ينسب إليها الخطأ جزم أنها تجري على قواعد النحو المشهورة ، وأنَّ توهُّمَ الخطأ فيها بعيد كل البعد :
يقول السيوطي رحمه الله :
” وقد تكلم أهل العربية على هذه الأحرف ووجهوها على أحسن توجيه :
أما قوله : ( إنَّ هذان لساحران ) ففيه أوجه :
أحدها : أنه جار على لغة من يجري المثنى بالألف في أحواله الثلاثة ، وهي لغة مشهورة لكنانة ، وقيل لبني الحارث .
الثاني : أن اسم ( إنَّ ) ضمير الشأن محذوفا ، والجملة ـ مبتدأ وخبر ـ خبر إن .
الثالث : كذلك ، إلا أن ساحران خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير لهما ساحران .
الرابع : أن ( إنَّ ) هنا بمعنى نعم .
الخامس : أن ( ها ) ضمير القصة اسم ( إنَّ ) وذان لساحران مبتدأ وخبر ، وتقدم رد هذا الوجه بانفصال ( إن ) ، واتصال ( ها ) في الرسم .
قلت – هو السيوطي – : وظهر لي وجه آخر ، وهو أن الإتيان بالألف لمناسبة ساحران يريدان ، كما نون سلاسلا لمناسبة وأغلالا ، و ( من سبإ ) لمناسبة بنبإ.
وأما قوله : ( والمقيمين الصلاة ) ففيه أيضا أوجه :
أحدها : أنه مقطوع إلى المدح ، بتقدير أمدح ؛ لأنه أبلغ .
الثاني : أنه معطوف على المجرور في ( يؤمنون بما أنزل إليك ) أي : ويؤمنون بالمقيمين الصلاة ، وهم الأنبياء ، وقيل الملائكة ، وقيل التقدير يؤمنون بدين المقيمين ، فيكون المراد بهم المسلمين ، وقيل بإجابة المقيمين .
الثالث : أنه معطوف على ( قبل ) ، أي : ومن قبل المقيمين ، فحذفت ( قبل ) وأقيم المضاف إليه مقامه .
الرابع : أنه معطوف على الكاف في ( قبلك ) .
الخامس : أنه معطوف على الكاف في ( إليك ).
السادس : أنه معطوف على الضمير في ( منهم )
حكى هذه الأوجه أبو البقاء .
وأما قوله : ( والصابئون ) ففيه أيضا أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ حذف خبره ، أي : والصابئون كذلك .
الثاني : أنه معطوف على محل إن مع اسمها ، فإن محلهما رفع بالابتداء .
الثالث : أنه معطوف على الفاعل في ( هادوا ) .
الرابع : أن ( إن ) بمعنى نعم ، فالذين آمنوا وما بعده في موضع رفع ( والصابئون )، عطف عليه .
الخامس : أنه على إجراء صيغة الجمع مجرى المفرد ، والنون حرف الإعراب .
حكى هذه الأوجه أبو البقاء ” انتهى من” الإتقان في علوم القرآن ” (1247-1249) تحقيق مركز الدراسات القرآنية .
ونحن نعلم أن شرح هذه الأوجه الإعرابية يطول ، وقد لا يفهمها كثير من القراء لدقتها ، ولكننا نقلناها ههنا كي يعلم الجاهلون الطاعنون في القرآن الكريم مدى جهلهم بعلوم النحو واللغة ، فيقفوا عند حدودهم ، ولا يتجاوزوا منطق العقل السليم .
رابعا :
أما الروايات الواردة عن بعض الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في هذا الموضوع فهي كثيرة ، جمعها الحافظ السيوطي في كتابه ” الإتقان في علوم القرآن ” (ص/1236-1257) وتكلم عليها كلاما مفصلا ، ونحن نقتصر ههنا على تخريج ما ورد السؤال عنه ، وهو ما جاء عن عائشة وعثمان بن عفان رضي الله عنهما في هذا الشأن :
الأثر الأول : عن عائشة رضي الله عنها.
يرويه هشام بن عروة عن أبيه قال :
سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) المائدة/69، ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) النساء/162، و ( إنَّ هذان لساحران ) طه/63، فقالت : يا ابن أختي ! هذا عمل الكُتَّاب ، أخطؤوا في الكِتاب .
وقد رواه عن هشام بن عروة اثنان من الرواة الكوفيين :
1- أبو معاوية الضرير : رواه سعيد بن منصور في ” السنن ” (4/1507، رقم/769) وهذا لفظه، وأبو عبيد في ” فضائل القرآن ” (ص/229، رقم/556)، ومن طريقه أبو عمرو الداني في ” المقنع ” (ص/119)، وأخرجه ابن جرير الطبري في ” جامع البيان ” (9/395)، وابن أبي داود في ” المصاحف ” (ص/43).
2- علي بن مسهر الكوفي : كما جاء عند عمر بن شبة بسنده في ” تاريخ المدينة ” (3/1013-1014)
وهذا إسناد لا يقبل أن يروى بمثله هذا الأثر ، وعلته كلام النقاد في حديث هشام بن عروة نفسه في العراق ، فهو وإن كان إماما ثقة ، الأصل في حديثه الصحة والقبول ، إلا أنه وقعت له بعض الأخطاء اليسيرة التي يتنبه لها العلماء من خلال التأمل في المتن ، والبحث عن المتابعات والشواهد ، ولما كان في متن هذا الأثر نكارة ظاهرة ، ولم يرد من طريق أخرى متابعة له : أمكننا القول بوقوع الخطأ فيه .
يقول الإمام الذهبي رحمه الله :
” ولما قدم – يعني هشام بن عروة – العراقَ في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم ، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها ، ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات ” انتهى من” ميزان الاعتدال ” (4/301)، وانظر تحقيق ” سنن سعيد بن منصور ” للدكتور سعد الحميد (2/659) ، وينظر أيضا : تعليق الدكتور سعد الحميد ، حفظه الله ، على هذا الأثر ، في تخريجه لسنن سعيد بن منصور (4/507-514) .
فإن قال قائل : فكيف يروي البخاري رحمه الله ، وكذلك مسلم في صحيحيهما أحاديث هشام بن عروة من رواية العراقيين ، بل من رواية أبي معاوية أيضا ، وأنتم ههنا تردونها ، وقد صحح السيوطي هذه الرواية في ” الإتقان ” (ص/1236) وقال : على شرط الشيخين ؟
فالجواب عن ذلك أننا نردها ههنا لما في المتن من نكارة ظاهرة ، إذ من المستبعد ألا تكون عائشة رضي الله عنها قد سمعت هذه الآيات بهذا الإعراب من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتظن أن الخطأ وقع فيها من نساخ القرآن الكريم .
والنقاد إذا وجدوا نكارة مقطوعا بها في المتن بحثوا في السند عن العلة الخفية التي وقع بسببها هذا الضعف ، وهي هنا حديث هشام بن عروة في العراق .
الأثر الثاني : عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
رواه عنه جماعة من الرواة :
1-عكرمة مولى ابن عباس قال : ( لما كتبت المصاحف عُرضت على عثمان ، فوجد فيها حروفا من اللحن ، فقال : لا تغيروها ؛ فإن العرب ستغيرها – أو قال ستعربها بألسنتها – لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف ) رواه أبو عبيد في ” فضائل القرآن ” (2/103، رقم/562)، وابن أبي داود في ” المصاحف ” (1/235، رقم/110)، وعزاه السيوطي في ” الإتقان ” (ص/1239) لابن الأنباري في كتاب : ” الرد على من خالف مصحف عثمان “، ولابن أشتة في كتاب : ” المصاحف “، وهما كتابان مفقودان . وهي رواية ضعيفة ؛ لأن رواية عكرمة عن عثمان بن عفان مرسلة ، كما هي عن أبي بكر وعلي بن أبي طالب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، انظر ” جامع التحصيل ” (ص/239)، وقد صرح أبو عمرو الداني في ” المقنع ” (ص/115) بالانقطاع بين عكرمة وعثمان ، هذا وقد سمي عكرمة عند ابن أبي داود في ” المصاحف ” بالطائي ، وليس مولى ابن عباس ، ولم نقف له على ترجمة .
2-يحيى بن يعمر : قال : رواه ابن أبي داود في ” المصاحف ” (1/233)، وابن أشتة في ” المصاحف ” كما ذكر ذلك السيوطي في ” الإتقان ” (ص/1240) وهي رواية مرسلة أيضا ، إذ لا يبدو من ترجمة يحيى بن يعمر أنه أدرك عثمان بن عفان رضي الله عنه، انظر ترجمته في ” تهذيب التهذيب ” (11/305)، وقد حكم البخاري عليه بالانقطاع كما في ” التاريخ الكبير ” (5/170) ثم إن في السند اضطرابا ، فمرة يروى عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن فطيمة أو ابن أبي فطيمة ، وتارة بالعكس ، فيروى عن ابن فطيمة عن يحيى بن يعمر ، كما في ” تاريخ المدينة ” (3/1013)، وقتادة يروي مرة عن نصر بن عاصم عن يحيى ، وتارة يروي عن يحيى مباشرة ولا يذكر نصرا ، وقد يكون بينه وبين يحيى راويان كما في الموضع السابق من تاريخ المدينة ، وقد نبه على هذا الاختلاف الباقلاني في ” الانتصار للقرآن ” (2/136-137).
3-عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر : رواه ابن الأنباري في ” الرد على من خالف مصحف عثمان ” كما ذكر ذلك السيوطي في ” الإتقان ” (ص/1240) وعبد الأعلى ترجمته في ” تهذيب التهذيب ” (6/87) وليس فيها توثيق له من أحد من أهل العلم .
4-قتادة : رواه ابن أبي داود في ” المصاحف ” ولفظه : ( أن عثمان رضي الله عنه لما رفع إليه المصحف قال : إن فيه لحنا ، وستقيمه العرب بألسنتها ) وفي السند إليه إبهام بقول أحد الرواة : حدثنا أصحابنا .
فيتحصل مما سبق أنه لا تصح أسانيد هذه الآثار ، وضعف أسانيدها يشكك في دقة متونها ، وعن مصدر هذه المتون .
خامسا :
وقد أجاب العلماء عن هذه الآثار بأجوبة أخرى ، نسردها ههنا موجزة ، ثم نتبعها بالنقول المطولة عن أهل العلم لمن أراد الفائدة :
1-اتفاق مصاحف الصحابة جميعهم على هذه الآيات ، واتفاق المسلمين على القراءة بها خلفا عن سلف ، دليل على عدم وقوع اللحن من الكاتب ، بل هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم .
2-توافر همم الصحابة والتابعين على نقل القرآن الكريم ، بل ونقل تفاصيل السنة النبوية، وخدمة هذا الدين بالمهج والأرواح والأموال ، يقضي بتعذر وقوع أخطاء من كتاب القرآن الكريم ، ثم لا يصلحها أحد بعدهم إلى يومنا هذا .
3-غير ممكن أن يتولى عثمان رضي الله عنه نسخ القرآن ونشره في الآفاق ليرفع الخلاف بين القراء ، ثم يترك في هذه المصاحف خطأ سببه الكتاب ، ولا يأمر بإصلاحه ، التصديق بذلك مخالف لمقتضيات العقل السليم .
4-يمكن فهم كلام عثمان على أنه أراد باللحن : اللحن في التلاوة بسبب اشتباه الرسم على الناس في بعض الأحيان ، فطمأن أن سلامة ألسنة العرب ستصحح تلاوة من يخطئ في قراءة كلمات القرآن . هذا تفسير أبي عمرو الداني للأثر .
5-كما يمكن فهم كلام عائشة على أنها ترى أن لو اختيرت القراءات الأخرى الموافقة للمشهور من قواعد اللغة العربية بين العامة لكان أفضل ، فتخطئتها للكتاب بمعنى مخالفة القراءة المشهورة ، والوجه الفاشي في العرب من أعاريبها .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله :
” في قراءة أبيّ بن كعب : ( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) ، وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا ، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف ، غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه ، بخلاف ما هو في مصحفنا ، وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك ما يدل على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ ، مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخطِّ لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمون من علَّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بألسنتهم ، ولقَّنوه الأمة تعليمًا على وجه الصواب .
وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً على ما هو به في الخط مرسومًا أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب ” انتهى من” جامع البيان ” (9/397) . وينظر أيضا : ” الكشاف ” ، للزمخشري (1/590) .
ويقول أبو عمرو الداني رحمه الله :
” فإن قال قائل : فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى بن يعمر وعكرمة مولى ابن عباس عن عثمان رضي الله عنه : إن المصاحف لما نّسخت عُرضت عليه فوجد فيها حروفا من اللحن فقال : اتركوها فإن العرب ستقيمها أو ستعربها بلسانها . إذ يدل على خطأ في الرسم ؟
قلت : هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة ، ولا يصح به دليل ، من جهتين :
أحدهما : أنه مع تخليط في إسناده ، واضطراب في ألفاظه : مرسل ؛ لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ، ولا رأياه .
وأيضا : فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان رضي الله عنه ، لما فيه من الطعن عليه ، مع محلّه من الدين ، ومكانه من الإسلام ، وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة ، واهتباله بما فيه الصلاح للأمة ، فغير ممكن أن يتولى لهم جمع المصحف مع سائر الصحابة الأتقياء الأبرار نظرا لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم ، ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده ممن لا شك أنه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده ، هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله ، ولا يحل لأحد أن يعتقده .
فإن قال :
فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان رضي الله عنه ؟
قلت : وجهه أن يكون عثمان رضي الله عنه أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم ، إذ كان كثير منه لو تُلي على رسمه لانقلب بذلك معنى التلاوة ، وتغيرت ألفاظها ، ألا ترى قوله ( أو لاأذبحنّه ) و ( لاأوضعوا ) و ( من نبأي المرسلين ) و ( سأوريكم ) و ( الربوا ) وشبهه مما زيدت الألف والياء والواو في رسمه ، لو تلاه تالٍ لا معرفة له بحقيقة الرسم على صورته في الخط… ولزاد في اللفظ ما ليس فيه ولا من أصله ، فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه ، مع كون رسم ذلك كذلك جائزا مستعملا ، فأعلم عثمان رضي الله عنه إذ وقف على ذلك أن من فاته تمييز ذلك ، وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده ، سيأخذ ذلك عن العرب ، إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم ، فيعرِّفونه بحقيقة تلاوته ، ويدلّونه على صواب رسمه ، فهذا وجهه عندي . والله أعلم .
فإن قيل : فما معنى قول عثمان رضي الله عنه في آخر هذا الخبر : ( لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد هذه الحروف ) ؟
قلت : معناه : أي توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك ، إذ كانت قريش ومَن ولي نَسْخ المصاحف مِن غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة ، وسلكوا فيها تلك الطريقة ، ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك ، فلو أنهما وليتا من أمر المصاحف ما وليه من تقدم من المهاجرين والأنصار لَرَسَمَتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ ووجدها في المنطق دون المعاني والوجوه ، إذ ذلك هو المعهود عندهما ، والذي جرى عليه استعمالها ، هذا تأويل قول عثمان عندي لو ثبت وجاء مجيء الحجّة وبالله التوفيق .
فإن قيل : فما تأويل الخبر الذي رويتموه أيضا عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن ، عن قوله : ( إن هذين لسحران )، وعن : ( والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة )، وعن ( إن الذين ءامنوا والذين هادوا.. والصبئون ) فقالت : يا ابن أختي ! هذا عمل الكتّاب ، أخطئوا في الكتابة .
قلت : تأويله ظاهر ، وذلك أن عروة لم يسأل عائشة فيه عن حروف الرسم تزاد فيها لمعنى وتنقص منها لآخر ، تأكيدا للبيان ، وطلبا للخفة ، وإنما سألها فيه عن حروف من القراءة المختلفة الألفاظ ، المحتملة الوجوه على اختلاف اللغات التي أذن الله عز وجل لنبيه عليه السلام ولأمته في القراءة بها ، واللزوم على ما شاءت منها ، تيسيرا لها ، وتوسعة عليها ، وما هذا سبيله وتلك حاله ، فعن اللحن والخطأ والوهم والزلل بمعزل ، لفشوه في اللغة ، ووضحه في قياس العربية ، وإذا كان الأمر في ذلك كذلك ، فليس ما قصدته فيه بداخل في معنى المرسوم ، ولا هو من سببه في شيء ، وإنما سمى عروة ذلك لحنا ، وأطلقت عائشة على مرسومه كذلك الخطأ ، على جهة الاتساع في الأخبار ، وطريق المجاز في العبارة ، إذ كان ذلك مخالفا لمذهبهما ، وخارجا عن اختيارهما ، وكان الأوجه والأولى عندهما ، والأكثر والأفشى لديهما ، لا على وجه الحقيقة والتحصيل والقطع ، لما بيناه قبل من جواز ذلك ، وفشوه في اللغة ، واستعمال مثله في قياس العربية ، مع انعقاد الإجماع على تلاوته كذلك دون ما ذهبا إليه ، إلا ما كان من شذوذ أبي عمرو بن العلاء في ( إن هذين ) خاصة ، هذا الذي يحمل عليه هذا الخبر ويتأول فيه ، دون أن يقطع به على أن أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظم محلها وجليل قدرها واتساع علمها ومعرفتها بلغة قومها لحَّنت الصحابة ، وخطَّأت الكتبة، وموضعها من الفصاحة والعلم باللغة موضعهم الذي لا يجهل ولا ينكر ، هذا ما لا يسوغ ولا يجوز .
وقد تأول بعض علمائنا قول أم المؤمنين : ( أخطأوا في الكتاب )، أي : أخطأوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه ، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز ، لأن ما لا يجوز مردود بإجماع ، وإن طالت مدة وقوعه ، وعظم قدر موقعه ، وتأول اللحن أنه القراءة واللغة ، كقول عمر رضي الله عنه : ( أُبَيٌّ أقرؤنا ، وإنا لندع بعض لحنه ) أي قراءته ولغته ، وهذا بيِّنٌ ، والله الموفق ” انتهى من” المقنع ” (118-119) .
ويقول السيوطي رحمه الله :
” هذه الآثار مشكلة جدا :
وكيف يظن بالصحابة أولا أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد !
ثم كيف يظن بهم ثانيا في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل ، وحفظوه ، وضبطوه ، وأتقنوه !
ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته !
ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه !
ثم كيف يظن بعثمان أنه ينهى عن تغييره !
ثم كيف يظن أن القراءة استمرت على مقتضي ذلك الخطأ ، وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف !!
هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة .
وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة :
أحدها : أن ذلك لا يصح عن عثمان ، فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع ، ولأن عثمان جعل للناس إماما يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، فإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك ، وهم الخيار ، فكيف يقيمه غيرهم !!
وأيضا فإنه لم يكتب مصحفا واحدا بل كتب عدة مصاحف ، فإن قيل : إن اللحن وقع في جميعها فبعيد اتفاقها على ذلك ، أو في بعضها : فهو اعتراف بصحة البعض ، ولم يذكر أحد من الناس أن اللحن كان في مصحف دون مصحف ، ولم تأت المصاحف قط مختلفة إلا فيما هو من وجوه القراءة ، وليس ذلك بلحن .
الوجه الثاني : على تقدير صحة الرواية إن ذلك محمول على الرمز ، والإشارة ، ومواضع الحذف ، نحو : الكتب ، والصبرين ، وما أشبه ذلك .
الثالث : أنه مؤول على أشياء خالف لفظها رسمها ، كما كتبوا ( ولاأوضعوا )، و ( لاأذبحنه ) بألف بعد لا ، و ( جزاؤا الظالمين ) بواو وألف ، و ( بأييد ) بيائين ، فلو قرئ بظاهر الخط لكان لحنا .
وبهذا الجواب وما قبله جزم ابن أشته في كتاب المصاحف .
وقال ابن الأنباري في كتاب ” الرد على من خالف مصحف عثمان ” في الأحاديث المروية عن عثمان في ذلك : لا تقوم بها حجة ؛ لأنها منقطعة غير متصلة ، وما يشهد عقل بأن عثمان – وهو إمام الأمة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم – يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام ، فيتبين فيه خللا ، ويشاهد في خطه زللا فلا يصلحه ، كلا والله ما يتوهم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز ، ولا يعتقد أنه أخر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده ، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه ، والوقوف عند حكمه ، ومن زعم أن عثمان أراد بقوله أرى فيه لحنا ، أرى في خطه لحنا إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسد ولا محرف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب فقد أبطل ولم يصب ؛ لأن الخط منبئ عن النطق ، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه ، ولم يكن عثمان ليؤخر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق ، ومعلوم أنه كان مواصلا لدرس القرآن ، متقنا لألفاظه ، موافقا على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي ، ثم أيد ذلك بما أخرجه أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن عبد الله بن مبارك ، حدثنا أبو وائل شيخ من أهل اليمن ، عن هانئ البربري ، مولى عثمان قال : كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها : ( لم يتسن )، وفيها : ( لا تبديل للخلق )، وفيها : ( فأمهل الكافرين )، قال : فدعا بالدواة فمحا أحد اللامين فكتب لخلق الله ، ومحى فأمهل ، وكتب فمهل ، وكتب لم يتسنه ، ألحق فيها الهاء .
قال ابن الأنباري : فكيف يدعى عليه أنه رأى فسادا فأمضاه وهو يوقف على ما كتب ويرفع الخلاف إليه الواقع من الناسخين ليحكم بالحق ويلزمهم إثبات الصواب وتخليده انتهى.
قلت ويؤيد هذا أيضا ما أخرجه ابن أشته في المصاحف قال : حدثنا الحسن بن عثمان ، أنبأنا الربيع بن بدر ، عن سوار بن شبيب قال : سألت ابن الزبير عن المصاحف فقال : قام رجل إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين ! إن الناس قد اختلفوا في القرآن ! فكان عمر قد هم أن يجمع القرآن على قراءة واحدة ، فطعن طعنته التي مات بها ، فلما كان في خلافة عثمان قام ذلك الرجل فذكر له ، فجمع عثمان المصاحف ، ثم بعثني إلى عائشة ، فجئت بالصحف فعرضناها عليها حتى قومناها ، ثم أمر بسائرها فشققت .
فهذا يدل على أنهم ضبطوها وأتقنوها ولم يتركوا فيها ما يحتاج إلى إصلاح ولا تقويم.
ثم قال ابن اشته : أنبأنا محمد بن يعقوب ، أنبأنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، أنبأنا أحمد بن مسعدة ، أنبأنا إسماعيل ، أخبرني الحارث بن عبد الرحمن ، عن عبد الأعلى ابن عبد الله بن عامر قال : لما فرغ من المصحف أتي به عثمان فنظر فيه فقال : أحسنتم وأجملتم أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا .
فهذا الأثر لا إشكال فيه ، وبه يتضح معنى ما تقدم ، فكأنه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته ، فرأى فيه شيئا كتب على غير لسان قريش كما وقع لهم في : التابوة والتابوت فوعد بأنه سيقيمه على لسان قريش ، ثم وفى بذلك عند العرض والتقويم ، ولم يترك فيه شيئا ، ولعل من روى تلك الآثار السابقة عنه حرفها ، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان ، فلزم منه ما لزم من الإشكال ، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك ، ولله الحمد.
وبعد فهذه الأجوبة لا يصلح منها شيء عن حديث عائشة :
أما الجواب بالتضعيف فلأن إسناده صحيح كما ترى .
وأما الجواب بالرمز وما بعده فلأن سؤال عروة عن الأحرف المذكور لا يطابقه .
فقد أجاب عنه ابن أشته وتبعه ابن جبارة في ” شرح الرائية ” بأن معنى قولها : ( أخطئوا ) أي : في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه ، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز . قال : والدليل على ذلك أن ما لا يجوز مردود بإجماع وإن طالت مدة وقوعه .
قال : وأما قول سعيد بن جبير لحن من الكاتب ، فيعني باللحن القراءة واللغة ، يعني أنها لغة الذي كتبها وقراءته ، وفيها قراءة أخرى.
ثم أخرج عن إبراهيم النخعي أنه قال : ( إن هذان لساحران )، و ( إن هذين لساحران ) سواء لعلهم كتبوا الألف مكان الياء ، والواو في قوله : ( والصابئون ) مكان الياء .
قال ابن أشته : يعني أنه من إبدال حرف في الكتاب بحرف ، مثل : الصلوة ، والزكوة ، والحيوة.
وأقول : هذا الجواب إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء فيها والكتابة بخلافها ، وأما القراءة على مقتضى الرسم فلا ” انتهى من” الإتقان في علوم القرآن ” (ص/1241-1247) .
وينظر أيضا : ” مجموع الفتاوى ” ، لشيخ الإسلام ابن تيمية (15/252-255) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب