0 / 0

النصح لمن اشتغل بتفضيل عالم على آخر في المنزلة والعلم

السؤال: 147097

رأينا مؤخراً أناساً يدخلون في مناظرات حيث يرفع بعض الناس أناساً آخرين فوق الأئمة الأربعة ، فهناك على سبيل المثال من يرفع ابن تيمية فوق الإمام الشافعي ومالك وأحمد ، وهناك الآن من يقول بأن هناك أئمة الآن أفضل من ابن تيمية ، كيف يمكن لهذا أن يكون صحيحاً ؟ أرجو أن تجيبوا بشيء من التفصيل .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

1. لا شك في وجود تفاوت بين الناس ، والعلماء من الناس الذين تتفاوت درجتهم ومنزلتهم ، كما يتفاوت علمهم ، وإذا علمنا أن الأنبياء عليهم السلام يتفاوتون لم يكن مستغرباً وجود تفاوت بين العلماء ، قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) البقرة/ 253 .

2. أما التفاوت في الفضل والمنزلة عند الله تعالى : فلا يحل لأحدٍ أن يتجرأ على القول به ؛ لأن ذلك من الغيب الذي لم يُطلعه الله تعالى على ذلك المفضِّل ، فليوكل أمر ذلك إلى العالم بخلقه عز وجل فهو المطلع على إخلاص الخلق وصدقهم ، وهو العالم بالأقرب منهم إليه سبحانه وتعالى .

3. وأما التفاوت بين العلماء في العلم : فإن الحكم عليه ليس للعوام ، ولا للجهلة ، ولا للمقلدين ، ولا للمتعصبين ، وإن حكم هؤلاء لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار ، وإنما الحكم لأهل العلم الذين صدقوا مع أنفسهم في حكمهم ، وكانوا من أهل الاختصاص في ذلك العلم ؛ فالعالم بالحديث هو الذي يعلم مقادير المشتغلين بذلك العلم ، والعالم بالفقه هو الذي يميز أهل الفقه ، ويعرف درجات المفتين .
ثم لم نر من أهل العلم اشتغالا بذلك التصنيف والتقييم لأقدار العلماء ، إلا حيث وجدت مصلحة ، أو مناسبة اقتضت ذلك ، ولم يكن ذلك منهم على سبيل التنقص من الآخرين .
قال تاج الدين السبكي – رحمه الله – :
الدخول بين أئمة الدين والتفضيل بينهم لمن لم يبلغ رتبتهم : لا يحسن ، ويخشى من غائلته في الدنيا والآخرة ، وقلَّ من استعمله فأفلح … وربما كان سبباً إلى الوقيعة في العلماء الموجبة لخراب الديار .
” الأشباه والنظائر ” ( 2 / 328 ) .

4. وقد كان العقلاء من العلماء يعرفون للعلماء – وخاصة من السلف المتقدمين – فضلهم وعلمهم ، فلم يكونوا يدخلون العوام في متاهات التفضيل ، وكانوا يحطون من قدر أنفسهم ويعلون من قدر من سبقهم من أهل العلم .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – :
وأهل العلم النافع على ضد هذا ، يسيؤون الظن بأنفسهم ، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم ، وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها ، وما أحسن قول أبي حنيفة وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل ؟ فقال : واللَه ما نحن بأهلٍ أن نذكرهم ؛ فكيف نفضل بينهم ؟!
وكان ابن المبارك إذا ذكَر أخلاق من سلف ينشد :
                            لا تَعرضنَّ لذكرنا في ذِكرِهِم … لَيسَ الصَحيحُ إِذا مَشى كَالمُقعَدِ
” فضل علم السلف على الخلف ” ابن رجب ( ص 55 ) .

5. وبعض الجهلة المعاصرين ظنَّ أن من أكثر من تسويد الصفحات وأكثر من التصنيف ، فقد فاق من قبله في العلم ! وأنه قد سبقهم في المعرفة والاطلاع ، ولا ريب أن ذلك من الخطأ في الظن ، والبطلان في الحكم والقول .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – :
وقد ابتُلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض مَن توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم ، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله ! ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين ! وهذا يلزم منه ما قبله ؛ لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولاً ممن كان قبلهم ، فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله : كان أعلم ممن كان أقل منهم قولاً بطريق الأولى ، كالثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وابن المبارك ، وطبقتهم ، وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً ،
فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم ، وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح ، وإساءة ظن بهم ، ونسبة لهم إلى الجهل وقصور العلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة إنهم أبر الأمَّة قلوباً ، وأعمقها علوماً ، وأقلها تكلفاً ، وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً ، وفي هذا إشارة إلى أن مَن بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً .
وقال ابن مسعود أيضاً : ” إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقلَّ قوله فهو الممدوح ومن كان بالعكس فهو مذموم ” ، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم ، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك ، وهذا هو الفقه والعلم النافع ؛ فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام : ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق .
” فضل علم السلف على الخلف ” ( ص 40-42 ) .

6. قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلام نفيس له ، أن الاشتغال بالتفضيل بين بعض المذاهب ، أو الشيوخ المتبوعين ، وتنقص الآخرين ، هو من أصول أهل البدع ، ومناهج أهل الرفض والتشيع ؛ بل هو من سنة أهل الكتابين من قبلنا : قالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء ؟!
قال رحمه الله :
“واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط ؛ فالخارجي يقول ليس الشيعي على شيء ، والشيعي يقول ليس الخارجي على شيء ، والقدري النافي يقول ليس المثبت على شيء ، والقدري الجبري المثبت يقول ليس النافي على شيء ، والوعيدية تقول ليست المرجئة على شيء ، والمرجئة تقول ليست الوعيدية على شيء ؛ بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة ؛ فالكلابي يقول ليس الكرَّامي على شيء ، والكرامي يقول ليس الكلابي على شيء ، والأشعري يقول ليس السالمي على شيء ، والسالمي يقول ليس الأشعري على شيء ، ويصنف السالمي ـ كأبي على الأهوازي ـ كتابا في مثالب الأشعري ، ويصنف الأشعري ـ كابن عساكر ـ كتابا يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه مثالب السالمية ، وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها ، لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية ، وخلط هذا بهذا ؛ فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد ، وكذلك الحنفي يخلط بمذاهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة .
وهذا من جنس الرفض والتشيع ، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء ، لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة !!
والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله : أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له ، وطاعة رسوله ؛ يدور على ذلك ويتبعه أين وجده ، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة ؛ فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقا عاما إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا لطائفة انتصارا مطلقا عاما إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ، ويدور مع أصحابه ـ دون أصحاب غيره ـ حيث داروا ؛ فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط ، بخلاف أصحاب عالم من العلماء ، قد فإنهم قد يجمعون على خطأ ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مُسَلَّما إلى عالم واحد وأصحابه ، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم ، ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع ، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول ، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل ، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة .. ” انتهى .
“منهاج السنة النبوية” (5/260-262) ، وينظر : “مجموع الفتاوى” (4/157) .

7. ولما سبق – جميعه – : لا يجوز للمسلم أن يشتغل بتصنيف العلماء أيهم أكثر علماً ، وليدع ذلك لأهل الاختصاص ، وما رأينا تفضيلاً من العامة وأشباههم إلا ومعه تنقيص لآخرين من أهل العلم والفضل ، وفي ذلك اشتغال بما يضر صاحبه ، مع ما فيه من تضييع للأوقات ، فأولئك العلماء وصلوا إلى ما وصلوا إليه بتوفيق الله لهم بإخلاصهم ، واجتهادهم ، وتعبهم على أنفسهم ببذل الأوقات في التعلم ، وبذل الأجساد في الرحلة ، وبذل الأموال في شراء الكتب ، فليشتغل هؤلاء المفضلون بما اشتغل به أولئك الأعلام ، وليكن منهم الثناء والتبجيل لكل من خدم دين الله تعالى ، وعلَّم الناس العلم النافع ، فالعلماء ورثة الأنبياء ، ولا ينبغي مع أولئك الورثة إلا ما يستحقونهمن الاعتراف بفضلهم وعلمهم وأثرهم الحسن على الناس .

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android