كيف نردّ على من يدعي أن هناك تعارضاً بين الآيتين التاليتين : ( أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) ، و : ( لم يكن له كفواً أحد ) ؛ حيث إن الله يقارن نفسه في الآية الأولى مع “الخالقين” ، وفي الآية الثانية ينفي عن نفسه التشبيه؟. أرجو منك شرحاً مفصلاً لكلمة الخالقين ، ولماذا وردت بصفة الجمع ، وأرجو أن تترجموا لي الإجابة للإنجليزية ، حتى أبعثها لصاحب الشبهة . وبارك الله فيكم .
الكلام على وصف الله تعالى بأنه أحسن الخالقين
السؤال: 149122
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
من الأصول المهمة في فهم ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في باب أسماء الله وصفاته ، أن نعلم أن هذه الأسماء والصفات أطلقت على ما يفهم الناس من لغة العرب ، التي بها نزل الخطاب ، وأن من ضرورة خطاب الناس بلسانهم ولغتهم التي يعرفونها أن يعبر عما ينسب إلى الله تعالى من الأسماء والأوصاف والأفعال ، بألفاظ تستعمل في حق خلقه ، ويفهمها الناس من لغتهم ، وإلا لم يمكنهم فهم المراد من ذلك ، لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن يكون ما يسمى به الخلق ، أو يوصفون به ، مشابها لما في حق الله .
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله :
” وكل من فهم عن الله خطابه يعلم أن هذه الأسامي ، التي هي لله تعالى أسامي … قد أوقع تلك الأسامي على بعض المخلوقين ، ليس على معنى تشبيه المخلوق بالخالق ، لأن الأسامي قد تتفق وتختلف المعاني ؛ فالنور وإن كان اسمًا لله ، فقد يقع اسم النور على بعض المخلوقين ، فليس معنى النور الذي هو اسم لله في المعنى مثل النور الذي هو خلق الله …
وربنا جل وعلا الهادي ، وقد سمى بعض خلقه هاديًا ، فقال عَزَّ وجَلَّ لنبيه : ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) فسمى نبيه هاديًا وإن كان الهادي اسمًا لله عَزَّ وجَلَّ.
والله الوارث ، قال الله تعالى : ( وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) ، وقد سمى الله من يرث من الميت ماله وارثًا ، فقال عَزَّ وجَلَّ : ( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ) .
فتفهّموا ـ يا ذوي الحجا ما بينت في هذا الفصل ، تعلموا وتستيقنوا أن لخالقنا عَزَّ وجَلَّ أسامي ، قد تقع تلك الأسامي على بعض خلقه في اللفظ ، لا على المعنى ، على ما قد بينت في هذا الفصل من الكتاب و السنة ولغة العرب ” . انتهى من “التوحيد”، لابن خزيمة (1/56).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” واذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه ، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم ؛ فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ، ولا يلزم من اتفاقهما فى مسمى الوجود ، أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا ؛ بل وجود هذا يخصه ، ووجود هذا يخصه ، واتفاقهما فى اسم عام ، لا يقتضي تماثلهما فى مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ، ولا في غيره .
فلا يقول عاقل ، إذا قيل ان العرش شيء موجود وأن البعوض شيء موجود : أن هذا مثل هذا لا تفاهما فى مسمى (الشيء) و(الوجود) … ، بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق ، وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود ، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره ، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما .
ولهذا سمى الله نفسه بأسماء ، وسمى صفاته بأسماء ، وكانت تلك الاسماء مختصة به إذا أضيفت إليه ، لا يشركه فيها غيره .
وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم ، مضافة إليهم ، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ، ولم يلزم من اتفاق الاسمين ، وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص : اتفاقهما ، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص ، فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص .
فقد سمى الله نفسه حياً فقال : ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، وسمى بعض عباده حياً ، فقال : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) ، وليس هذا الحي مثل هذا الحي ؛ لأن قوله (الْحَيُّ) اسم لله مختص به ، وقوله : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود فى الخارج ، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين ، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق ، والمخلوق عن الخالق .
ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته : يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق ، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى . ” انتهى من “التدمرية” (20-22) .
ثانياً:
إذا فهمنا هذه القاعدة المهمة في باب أسماء الله وصفاته ، تبين لنا أن الله جل جلاله هو الخالق حقيقة لكل ما في الكون ، لا يشركه في ذلك أحد من خلقه ، وأن تسمية بعض خلقه بالخالقين ، لا يعني أنه شريك لله في شيء من خلقه ، أو شبيه له في صفة من صفاته ، بل هذا جار على ما هو معروف من لغة العرب ، من تسمية بعض أفعال المخلوقين “خلقا” .
وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى عن نفسه المقدسة : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون /14 ، وقوله سبحانه : ( أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) الصافات / 125 .
فقيل : المعنى : أحسن الصانعين . قال مجاهد : يصنعون ويصنع الله ، والله خير الصانعين .
“تفسير الطبري” (19 / 19)
ورجحه ابن جرير رحمه الله ، وقال : ” لأن العرب تسمي كل صانع خالقاً ، ومنه قول زهير:
وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ـضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي
“تفسير الطبري” (19 / 19)
وقال القرطبي رحمه الله :
” ( أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) : أتقن الصانعين . يقال لمن صنع شيئاً : خلقه .
ولا تُنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع ؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم ” انتهى من “الجامع لأحكام القرآن” (12 / 110)
وقال ابن القيم رحمه الله :
” (الخالق والمصور ) : إن استعملا مطلقين غير مقيدين لم يطلقا إلا على الرب ، كقوله : ( الخالق البارئ المصور ) ، وإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد ، كما يقال لمن قدَّر شيئا في نفسه ، أنه خلقه . قال :
وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ـضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي
أي : لك قدرة تُمضي وتنفذ بها ما قدَّرته في نفسك ، وغيرك يقدِّر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها ، وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ؛ أي : أحسن المصورين والمقدرين ، والعرب تقول : قدرت الأديم ، وخلقته : إذا قسته لتقطع منه مزادة أو قربة ونحوها . قال مجاهد : يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين . وقال الليث : رجل خالق ، أي : صانع ، وهن الخالقات : للنساء . وقال مقاتل : يقول تعالى : هو أحسن خلقاً من الذين يخلقون التماثيل وغيرها ، التي لا يتحرك منها شيء .
وأما البارئ : فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه ؛ فإنه الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد عدمها ” انتهى من “شفاء العليل” (ص 131) ، وينظر : “أضواء البيان” ، للشنقيطي (26 / 41) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” ما ورد من إثبات خلق غير الله ، كقوله تعالى : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم في المصورين: ( يقال لهم أحيوا ما خلقتم )
فهذا ليس خلقاً حقيقة ، وليس إيجاداً بعد عدم ، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال ، وأيضاً ليس شاملاً ، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه ، ومحصور بدائرة ضيقة ؛ فلا ينافي قولنا : إفراد الله بالخلق ” انتهى .
“القول المفيد” (1 / 1-2) .
ومن ذلك يتبين أن هذه الآية الكريمة ، وما يشابهها، ليس فيها شيء من تشبيه أحد بالخالق سبحانه ، فيما يختص به من صفة الخلق ، أو غير ذلك من الصفات ، وأن ما سمي به المخلوق من أسماء الخالق ، فإنما تحمل على ما يليق بالمخلوق ، وأما أسماء الله تعالى وصفاته ، فهي على ما يليق بكماله ، وجماله ، وجلاله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
وهذا هو عين ما تدل عليه سورة الإخلاص :
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .
فليس لله من خلقه ، شبيه ، ولا مثيل ، ولا ند ، ولا نظير .
وهذا أصل محكم في دين الله ، لا يعارضه ، ولا يشكل عليه شيء من نصوص الكتاب والسنة.
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب