طرح عليّ أحد المسيحيين هذا السؤال فأريد إجابة له حتى أرسله إليه :
في سورة ” النجم ” قوله ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) ، وفي ” التكوير ” قوله ( ولقد رآه بالأفق المبين ) ، وهذه آيات تدل على أن محمَّداً رأى ربه ، في حين أنّا نجد ما ينافي ذلك في سورة ” الأنعام ” ( لا تدركه الأبصار .. ) وفي سورة ” الشورى ” ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً .. ) ، أليس هذا تناقضا واضطرابا في كتابكم ؟! .
شبهة لنصراني يزعم أن هناك تعارضاً في آيات القرآن بعضها يثبت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه وبعضها ينفي
السؤال: 170597
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
ما رآه ذاك النصراني تناقضاً وتعارضاً بين آيات القرآن : قوله : إن قوله تعالى ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) النجم/ 18 ، وقوله ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ) التكوير/ 23 أنهما في إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربِّه عز وجل في المعراج ! وأن هذا يتناقض ويتعارض مع قوله تعالى ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الأنعام/ 103 ، ومع قوله ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الشورى/ 51 ! .
فالرد عليه من وجوه :
أ. قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ .. ) إنما يستدل به على نفي إدراك الأبصار له ؛ فإذا قلنا إن المراد بالإدراك المنفي هنا : رؤية الأبصار ؛ فهذه الرؤية المنفية لم تثبت في دار الدنيا ، لا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره ، على ما سيأتي . وإذا قلنا إن الإدراك يختلف عن الرؤية ، كما ذهب إليه غير واحد من أهل العلم ، وقالوا : إن الإدراك يدل على الإحاطة ، وهي منفية عن الله عز وجل ، فلا أحد يحيط بالله جل جلاله رؤية ، ولا علما .. ؛ فلا إشكال أصلا ؛ لأننا لو افترضنا أن النصوص الأخرى تدل على رؤية النبي لربه ، فسوف يقال في الجمع بينهما إن نفي الإحاطة ، والإدراك ، لا يلزم منه نفي الرؤية .
غير أن الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينه في الدنيا ، وقد أخبر أصحابه أن هذا حكم عام . ففي صحيح مسلم – ( 7540 ) – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ ) .
ب. ولما كان قوله : ( لن يرى أحد منكم .. ) لا يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مستثنى من هذا الحكم ؛ فقد سئل عن ذلك صراحة ، فأجاب بما ينفي رؤيته لربه بعينه . فعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ” هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ ” قَالَ ( نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ ) رواه مسلم ( 178 ) .
قال ابن أبي العز الحنفي – رحمه الله – : ” لم يرد نصٌّ بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه ، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية ، وهو ما رواه مسلم في ” صحيحه ” عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ فقال ( نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ ) ، وفي رواية ( رَأَيْتُ نُوراً ) ، وقد روى مسلم أيضا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ ، فَقَالَ ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ ، ( وَفِي رِوَايَةٍ : النَّارُ ) ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) ، فيكون – والله أعلم – معنى قوله لأبي ذر ( رَأَيْتُ نُوراً ) : أنه رأى الحجاب ، ومعنى قوله ( نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ ) النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته ، فأنَّى أراه ؟ أي : فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته ؟ فهذا صريح في نفي الرؤية ، والله أعلم ” . انتهى من ” شرح العقيدة الطحاوية ” ( ص 163 ) .
وهذا هو التحقيق في المسألة ، فيكون من استدل بشيء من آيات القرآن الكريم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه غير مصيب ، وليس ثمة تعارض بين نصوص الوحي ، والحمد لله رب العالمين .
ب. ظنَّ تابعي جليل – وهو مسروق – أن قوله تعالى ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) النجم/ 13 – وقد استدل بها قبله ابن عباس كما سبق – ، وقوله تعالى ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ) التكوير/ 23 هما في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربِّه تعالى ، حتى أبانت له عائشة رضي الله خطأ كلامه وأنها هي بنفسها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيتين فقال لها ( إنما ذاك جبريل ) فعُلم خطأ من استدل بالآيتين على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربِّه تعالى ، والعجيب أن عائشة رضي الله عنها قد ردَّت عليه بالآيتين اللتين ذكرهما ذاك النصراني ! .
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ : يَا أَبَا عَائِشَةَ ” ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ ” قُلْتُ : مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ : ” مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ ” قَالَ : وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ ، فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ) ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) ؟ فَقَالَتْ : ” أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ( إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ) ، فقَالَتْ : أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ؟ ” . رواه مسلم ( 177 ) .
ج. وأما قوله تعالى ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) النجم/ 18 : فليس فيها مجال للاستدلال على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربِّه ، بل لو قيل العكس لكان هو الصواب ؛ فليس هناك ها هو أعظم من رؤية الله تعالى ، فكيف يُعدل عن ذكرها ليذكر رؤية آيات كبرى ؟! وأي الأمرين أولى بالتنصيص عليه ؟! .
قال ابن خزيمة – رحمه الله – : ” وليس هذا التأويل الذي تأوَّلوه لهذه الآية بالبيِّن ، وفيه نظر ؛ لأن الله إنما أخبر في هذه الآية أنه ( رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) ، ولم يُعلم الله في هذه الآية أنه رأى ربَّه جل وعلا ، وآيات ربِّنا ليس هو ربنا جل وعلا ، فتفهموا لا تغالطوا في تأويل هذه الآية ” . انتهى من ” كتاب التوحيد ” ( ص 296 ) .
وقال ابن كثير – رحمه الله – : ” وقوله ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) كقوله ( لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ) طه/ 23 أي : الدالة على قدرتنا وعظمتنا ، وبهاتين الآيتين استدل مَن ذهب مِن أهل السنَّة أن الرؤية تلك الليلة ـ يعني : ليلة المعراج ـ لم تقع ؛ لأنه قال ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) ، ولو كان رأى ربَّه لأخبر بذلك ، ولقال ذلك للناس ” . انتهى من ” تفسير ابن كثير ” ( 7 / 454 ) .
د. وهل يسلم لعائشة رضي الله عنها استدلالها بالآيتين على عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربِّه ؟! هذا محل بحث ونظر ، والمهم في كلام عائشة رضي الله عنها نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرئي مرتين هو جبريل عليه السلام وهذا كافٍ لنقض استدلال من استدل بالآيات على رؤيته لربه تعالى ، وكون استدلالها بالآيتين أنه لا يسلم لها له بحث آخر حيث لم يرتض ذلك منها طائفة من العلماء ، ومنهم الإمام ابن خزيمة كما ذكره في كتابه ” التوحيد ” ( 2 / 557 – 559 ) ، وإنما أردنا بذلك أن نبيِّن لذاك النصراني – ولغيره – أنه ليس ثمة تناقض ولا تعارض بين آيات القرآن ، فليس في الآيتين الأوليتين إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في الآيتين الأخريتين نفي للرؤية ! فالآية الأولى فيها نفي الإدراك ، هو الإحاطة ، وليس هو نفي مطلق الرؤية ، والصحيح أنها في رؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – : ” ( لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ) لعظمته وجلاله وكماله ، أي : لا تحيط به الأبصار وإن كانت تراه وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم ، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية ، بل يثبتها بالمفهوم ؛ فإنه إذا نفى الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية : دلَّ على أن الرؤية ثابتة ؛ فإنه لو أراد نفي الرؤية لقال ” لا تراه الأبصار ” ونحو ذلك ، فعُلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة ، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم ” . انتهى من ” تفسير السعدي ” ( ص 268 ) .
والآية الثانية هي في أنواع تبليغ الله تعالى لرسالاته ، وليس فيها نفي الرؤية ؛ إذ لا يلزم من التبليغ بالوحي الرؤية ، ولا يلزم العكس كذلك ، وقد كان ذلك مجرد استنباط من عائشة رضي الله عنها كحالها مع الآية التي قبلها .
ويكفينا في النفي ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنها ، والله الموفق .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب