أحيانا نسمع أقوالاً رويت عن الصحابة ، وأحيانا أخرى أقوالاً رويت عن الأئمة في مناسبات مختلفة ، في حين أن القاعدة العامة توجهنا إلى اتباع الكتاب والسنة ، فمتى يتوجب على المسلم أن يأخذ بقول الصحابي أو قول الإمام ؟ وكيف يوفّق بين هذا الأمر وقاعدة وجوب اتباع الكتاب والسنة ؟
متى يكون قول العالم – صحابيا كان أو غيره – حجة ؟
السؤال: 178977
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
وجوب اتباع الكتاب والسنة لا ينافي الأخذ عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن علماء الأمة المشهود لهم بالعلم والفضل ، بل إن الأخذ عنهم في الجملة هو من اتباع الكتاب والسنة ، قال الله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) الأنبياء/ 7 .
وروى أبو داود (3641) عن أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ( … وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
وقول العالم – سواء كان صحابيا أو غيره – لا يخلو إما أن يكون موافقا للسنة أو مخالفا لها ، فإن كان موافقا لها : وجب الأخذ به والعمل بمقتضاه ؛ لأن أهل العلم أعلم بالله وبرسوله ممن سواهم .
وإن كان مخالفا للسنة فإنه لا يؤخذ به ، وإنما يؤخذ بالسنة ، لكن متى تبينت لصاحبها ، وتبين له مخالفة قول هذا القائل المعين لها .
والقاعدة : أن كل واحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويحفظ مع ذلك لأهل العلم – وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم – مكانتهم ومنزلتهم في الدين .
وأما إذا لم يرد نص في المسألة فقول الصحابي الفقيه إذا لم يخالف غيره من الصحابة حجة عند كثير من أهل العلم .
والقاعدة في ذلك أن قول الصحابي حجة ما لم يخالف نصا ، أو يخالف غيره من الصحابة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إذا كان الصحابي من الفقهاء المعروفين بالفقه فإن قوله حجة بشرطين :
الشرط الأول : ألا يخالف قول الله ورسوله ؛ فإن خالف قول الله ورسوله وجب طرحه والأخذ بما قال الله ورسوله .
الشرط الثاني : ألا يخالف قول صحابي آخر ؛ فإن خالف قول صحابي آخر وجب النظر في الراجح ؛ لأنه ليس قول أحدهما أولى بالقبول من الآخر " .
انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (59 /24) .
وكذا قولهم رضي الله عنهم في أسباب النزول وتفسير القرآن والسنة حجة ؛ لأنهم أعلم بالتنزيل وبلغة العرب ، وفيهم نزل القرآن ، وقد عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم أعلم بسنته .
أما العلماء ممن عداهم : فهم أعلم الناس بالكتاب والسنة ، وأدرك الناس بالقياس الصحيح ، وأقدر الناس على استنباط الأحكام واستخراجها من أصولها ، قال الله تعالى : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) النساء/ 83 .
قال السعدي رحمه الله :
" وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله ، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 190) .
ويتأكد الرد إلى أهل العلم ، والوقوف عند أقوالهم في المسائل المشكلة والمشتبهة ؛ فهذا لا حظ فيها لنظر القاصر ، ومن لم يتبصر بالعلم ، ويختص بذلك الأمر ، ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم برد ما اشتبه إلينا علمه من كتاب الله أو سنة رسوله إلى أهل العلم به :
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا يَتَدَارَءُونَ ، فَقَالَ : ( إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا ؛ ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ؛ فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا ، وَمَا جَهِلْتُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ ) رواه أحمد (6702) وابن ماجة (85) وحسنه الألباني في " مشكاة المصابيح " (237) .
قال الشيخ ملا علي القاري رحمه الله :
" (فَكِلُوهُ) أَيْ: رُدُّوهُ وَفَوِّضُوهُ (إِلَى عَالِمِهِ) : وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تُلْقُوا مَعْنَاهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ " انتهى من "مرقاة المفاتيح" (1/313) .
والحاصل : أنه متى اتفق أهل العلم على معنى آية أو حديث ، أو إثبات حكم شرعي ، أو نفيه ، فهذا حجة شرعية ثابتة ؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة .
وأما إذا اختلفوا ، فالحكم بين الأقوال والأفعال والأحوال هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فما كان من أقوالهم أشبه بالكتاب والسنة وأقرب للحكم بهما وجب اتباعه ، وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة أو كان أبعد عن الحكم بهما وجب رده ، مع الإقرار لجميعهم بالعلم والفضل والصيانة والديانة ؛ فإنهم الذين اصطفاهم الله لحفظ دينه ورعاية شرعه وحكمه وإقراره في الناس .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فَإِذَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (20 /12) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" إذا قام الدليل على مسألة من المسائل ، وجب الأخذ بما قام عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن خالف إماما كبيرا ، بل وإن خالف بعض الصحابة ، فالله يقول : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) ولم يقل سبحانه : ردوه إلى فلان أو فلان .
لكن لا بد من التثبت واحترام أهل العلم ، والتأدب معهم ، فإذا وجد المرء قولا ضعيفا عن أحد الأئمة أو العلماء أو المحدثين المعتبرين ، فإن ذلك لا ينقص من قدرهم ، وعليه أن يحترم أهل العلم ، والتأدب معهم ، ويتكلم بالكلام الطيب ، ولا يسبهم ولا يحتقرهم ، ولكن يبين الحق بالدليل مع دعائه للعالم ، والترحم عليه ، وسؤال الله أن يعفو عنه .
هكذا يجب أن تكون أخلاق أهل العلم مع أهل العلم : يقدرون أهل العلم لمكانتهم ، ويعرفون لهم قدرهم ومحلهم وفضلهم " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (26 /305) .
راجع لتمام الفائدة إجابة السؤال رقم : (128658) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة