الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
قد تضافرت الأدلة الشرعية من نصوص الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة ومن تبعهم من الأئمة على أن آدم عليه السلام أصل النوع البشري ، خلقه الله من تراب ، ثم خلق منه زوجته حواء ، فبث منهما البشر جميعا .
قال الله تعالى :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ) النساء/ 1 .
قال ابن كثير رحمه الله :
” يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومُنَبّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) وهي حواء عليها السلام ، خلقت من ضِلعه الأيسر من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن قتادة عن ابن عباس قال : خُلقَت المرأة من الرجل ” انتهى من ” تفسير ابن كثير” (2 /206) .
فمبدأ البشر آدم ، ثم جاءت منه حواء ، ثم جاء منهما البشر جميعا .
يوضح ذلك قوله تعالى :
( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) الزمر/ 6 .
فقوله : ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) واضح الدلالة على أن خلق آدم كان أولا ، ثم خلقت حواء منه بعد ذلك .
وعبّر بحرف العطف ( ثم ) الذي يدل على الترتيب والعطف الرتبي ؛ ليبين أن ترتيب الخلق هكذا : آدم أولا ، ثم حواء منه ، ثم سائر البشر منهما .
وأكد ذلك بقوله ( نفس واحدة ) ليدل على أن أصل النوع البشري نفس واحدة ، لا نفسان .
وفي ذلك دليل واضح على رد قول من يقول إن الله تعالى خلقهما معا .
قال الطبري رحمه الله :
” يقول تعالى ذكره : ( خَلَقَكُمْ ) أيها الناس( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني من آدم ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يقول : ثم جعل من آدم زوجه حواء ، وذلك أن الله خلقها من ضِلَع من أضلاعه ” انتهى من ” تفسير الطبري ” (21/254) . وينظر أيضا : “تفسير الطبري” (7 /515) .
وروى البخاري (3331) ومسلم (1468) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ ) .
وهذا بيان من السنة الصحيحة أن حواء خلقت من ضلع .
وقد تقدم في جواب السؤال رقم : (9067) أنه يجب على كل مسلم أن يؤمن بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كلها – إن صحت عنه – وألا يرد شيئاً منها ؛ لأن أحاديثه وسنته صلى الله عليه وسلم وحي من الله ، والذي يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الوحي من الله .
قال النووي رحمه الله في شرحه للحديث المتقدم :
” وَفِيهِ دَلِيل لِمَا يَقُولهُ الْفُقَهَاء أَوْ بَعْضهمْ أَنَّ حَوَّاء خُلِقَتْ مِنْ ضِلْع آدَم , قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجهَا ) وَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْع” .
وهذا من تمام قدرته سبحانه ومطلق مشيئته ؛ ليعلم المخلوق كيف كان أصله ، وما هو مبدأ خلقه ، وأن الله على كل شيء قدير ، فيعلم ضعفه وقلة حيلته ، ويعلم عظمة ربه في قدرته ومشيئته ، فحري به بعد ذلك أن يؤمن به ويسلم له .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” خلق سائر الخلق من ذكر وأنثى ، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح ؛ فإن حواء خلقت من ضلع آدم ، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم ، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا وهو أصل خلق حواء ” انتهى من “الجواب الصحيح” (4 /54) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
” … ليرى عباده أنه خالق أصناف الحيوان كلها كما يشاء وفي أي لون شاء ، فمنها المتشابه الخلقة المتناسب الأعضاء ، ومنها المختلف التركيب والشكل والصورة ، كما يرى عباده قدرته التامة في خلقه لنوع الإنسان على الأقسام الأربعة الدالة على أنه مخلوق بقدرته ومشيئته ، تابع لها ، فمنه ما خلق من غير أب ولا أم ، وهو أبو النوع الإنساني ، ومنه ما خلق من ذكر بلا أنثى ، وهي أمهم التي خلقت من ضلع آدم ، ومنه ما خلق من أنثى بلا ذكر ، وهو المسيح ابن مريم ، ومنه ما خلق من ذكر وأنثى وهو سائر النوع الإنساني ، فيرى عباده آياته ويتعرف إليهم بآلائه وقدرته وأنه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ” انتهى من “مفتاح دار السعادة” (1 /242) .
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
” مِن حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس أي علامة دالة على كمال
قدرته وأنه يخلق ما يشاء كيف يشاء ، إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى
، وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء ، كما نص على ذلك بقوله : ( وخلق منها
زوجها ) النساء/1 ، أي خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء ، وإن شاء خلقه
بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم ، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر
بني آدم ” انتهى من “أضواء البيان” (4 / 259) .
وعلى ذلك جمهور علماء المسلمين من السلف والخلف : أن الله تعالى خلق آدم أولا ثم خلق منه حواء ، ثم خلق منهما البشر جميعا :
فعَنْ قَتَادَةَ قال ” جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا قَالَ : خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلاعِهِ لِيَسْكُنْ إِلَيْهَا .
“تفسير ابن أبي حاتم” (5/ 1631)
وعن مجاهد في قوله : ( وخلق منها زوجها ) قال: حواء، من قُصَيري آدم وهو نائم .
“تفسير الطبري” (7 /515)
ثم روى معناه عن ابن عباس والسدي وابن إسحاق .
وقال البغوي رحمه الله :
” خلق الله حواء من ضلع آدم “
“تفسير البغوي” (7 /186)
وانظر : “تفسير ابن أبي حاتم” (12/ 410) ، “التحرير والتنوير” (4 /216) ، “فتح القدير” (2 /399) .
وقال علماء اللجنة الدائمة :
” ثبت في القرآن والسنة ما يدل على خلق آدم من تراب ، وخلق زوجه حواء منه ” انتهى من “فتاوى اللجنة الدائمة” (1 /15) .
والواجب في هذه المسألة وما يشبهها : أن يُنَاقش المخالف بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويبيَّن له أن الأصل الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ، وما تلقاه الخلف عنهم ، وأن هذه القضايا الكبرى لا مجال للاجتهاد فيها ، فمن كان لديه أثارة من علم فليدل بدلوه ، ومن لم يكن عنده علم في ذلك الباب : وسعه السكوت .
ويراجع للفائدة جواب السؤال رقم : (175317) .
والله تعالى أعلم .