هل يخاطب الله الناس من خلال العلامات ، وكيف نعلم أن ما نقوم به هو نفسه ما يريده الله منا في هذه الحياة . على سبيل المثال ، اختيار المهنة الصحيحة ، وزواج الشخص المناسب ، والعيش في المكان المناسب . وبرجاء شرح الآية التالية : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم )الشورى /42:51 ؟
هل يخاطب الله الناس بالأمارات والعلامات ؟
السؤال: 185834
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لله سبحانه وتعالى في خلقه الحكمة البالغة ، وله عز وجل في تقديره هذا الكون الأسرار الدقيقة ، والعبد داخل هذه الأفلاك العظيمة ، ضعيف ، فقير لا يملك سوى إرادته الحرة التي وهبه الله إياها ، وعقله الذي به يميز بين الخير والشر ، وفُضِّلَ بسببه على جميع عوالم المخلوقات .
وهذا العقل أو ” الاختيار ” به يكتسب الإنسان العلم ، ولأجله سجد الملائكة لأبينا آدم سجود تحية وتكريم ، وهو – وإن كان هبة خاصة من الله سبحانه وتعالى ، نسبها لنفسه حين قال عز وجل : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) الحجر/29 – إلا أنه عقل كليل عن أن يحيط بما يراد به ، عاجز عن اختراق حجب العالم المشاهد ليفهم الأبعاد الغائبة عنه ، فكان لله عز وجل أن أكرم الإنسان مرة أخرى بنور الهداية الذي يمكن أن نقسمه إلى قسمين :
القسم الأول :
نور النبوة الذي يستمد من ” الوحي ” بجميع صوره وأشكاله المذكورة في سورة الشورى ، في قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الشورى/51 ، وفي غيرها من الأدلة الشرعية التي ثبتت فيها صور الوحي الكثيرة .
يقول العلامة السعدي رحمه الله :
” لما قال المكذبون لرسل الله ، الكافرون بالله : ( لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) من كِبْرهم وتجبرهم ، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة ، وأن تكليمه تعالى لا يكون إلا لخواص خلقه ، للأنبياء والمرسلين ، وصفوته من العالمين ، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه :
( إما أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وَحْيًا ، بأن يلقي الوحي في قلب الرسول ، من غير إرسال ملك ، ولا مخاطبة منه شفاها .
( أَوْ ) يكلمه منه شفاها ، لكن ( مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) كما حصل لموسى بن عمران كليم الرحمن .
( أَوْ ) يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي ، فـ ( يُرْسِلَ رَسُولا ) كجبريل أو غيره من الملائكة .
( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) أي : بإذن ربه ، لا بمجرد هواه ، ( إِنَّهُ ) تعالى عليُّ الذات ، عليُّ الأوصاف ، عظيمُها ، عليُّ الأفعال ، قد قهر كل شيء ، ودانت له المخلوقات . حكيم في وضعه كل شيء في موضعه من المخلوقات والشرائع ” انتهى من ” تيسير الكريم الرحمن ” (ص/762) .
ويتميز هذا النور ، نور الوحي الإلهي ، بأنه جزم وحق ويقين ، لا تعتريه الظنون ، ولا تخالطه الشكوك والأوهام ، بل هو حبل مباشر بين الله عز وجل وبين رسوله أو نبيه ، يصل أهل الأرض بالسماء ، ويخترق قيود البشرية التي لا يتمكن العقل من التخلص منها إلى عالم الغيب ، وإلى نزر يسير من علم الله سبحانه وتعالى ، فكان هذا النور سبب تصحيح مسيرة البشرية التي اجتالتها الشياطين عن مسيرة التوحيد ، وعن مسيرة القسط والعدل في الأعمال والأخلاق ، وختمت تلك الأنوار بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولذلك لما دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على أم أيمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بَكَت ، ( فَقَالَا لَهَا : مَا يُبْكِيكِ ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَتْ : مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ . فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا ) رواه مسلم (2454) .
القسم الثاني :
نور الآيات والأمارات التي يُذَكِّرُ الله عز وجل بها عباده ، ويقذفها في قلوبهم أو فيما حولهم من التصريف والتدبير والخلق ، توقظ فيهم روح التفكر والتدبر ، وتنشرهم من عالم الغفلة إلى عالم الحضور والشهود ، ولكن الناس يتفاوتون في فهمها ، فمنهم من تبلغه رسالتها ، وتحقق فيه مقصودها ، ومنهم من تكون سببا في غوايته وضلاله ، أو يبقى في غفلته . قال تعالى : ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ) يونس/101. ويقول سبحانه : ( وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) النور/18.
وبهذا المعنى يمكن أن نسمي تلك الآيات ” خطابا ” من الله لعباده كما ورد في السؤال ، ولكن على سبيل التجوز، والمسامحة في العبارة ، وقد ” روي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي جعفر الباقر ، وقتادة ، وسفيان بن عيينة أنهم قالوا في قوله تعالى : ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) فاطر/37 ، يعني : الشيب ” ينظر ” تفسير القرآن العظيم ” لابن كثير (6/ 556) .
فانظر كيف اعتبروا الشيب نذيرا لبني آدم ، والنذارة بمعنى ” الخطاب ” .
ولكنها آيات أو أمارات : الحكمة منها تقويم طريق المسير إلى الله سبحانه وتعالى ، وتذكير النفس بضرورة المحاسبة والمراجعة ، لتنظر في موقف الحساب بين يدي ربها عز وجل ، فتستعد لذلك اليوم العسير ، وليست لتحقيق شهوات الدنيا وملذاتها ، أو الهداية في اختياراتها ، وما يتيسر للإنسان فيها . فالنور الإلهي إنما يرد للهداية للسعادة الحقيقية ، سعادة الآخرة ، وليس لسعادة الدنيا الفانية .
وبناء على ذلك فنحن نقول : إننا لا نعرف علامات وأمارات خاصة ، ترشد الإنسان إلى صحة اختياراته الحياتية اليومية ، من مسكن ومأكل وملبس وزواج ونحوها ، إلا علامة واحدة فقط ، وهي إذا راقب حكم الله تعالى ، وراقب نيته ومقصده يريد تحقيق رضوان الله تعالى في جميع ذلك ، إلى جانب الاستقامة على الشريعة ، فحينئذ يمكننا أن نجعل ذلك علامة وأمارة على أن الله عز وجل أراد بك الخير ، حتى لو تعسر ذلك المسعى المعاشي أو تأخر ، فما دمت تحتسب نيتك عند الله ، وتصبر ، وتستقيم على شرع الله ، فكل شيء يريده الله بك في هذه الحياة الدنيا هو خير لك بإذن الله ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم (2999) .
كما قال بعض الحكماء : ” إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَك عِنْدَهُ فَانْظُرْ فِيمَا يُقِيمُك ” انتهى من ” بريقة محمودية ” (3/ 85) .
ولهذا فنصيحتنا لك أن لا تطيل التفكير في مراد الله من محطات الحياة التي تعيش ، إن كانت محطات خير أم محطات فتنة وشر عند الله سبحانه ، فالله عز وجل لم يكلفنا التأمل في حقيقة ما قضى وقدر ، وإنما ننصحك بالاشتغال في الوقوف عند حدود الله في كل محطة ، وفي كل تجربة لك في هذه الدنيا ، وأن تحتسب أجرك عند الله فيها ، وتسخرها لتكون محطة خير للإنسانية ، ونفع للبشرية ، وتحقيق لعبودية الله عز وجل . فإذا راعيت ذلك وحرصت عليه ، فاعلم أن كل شيء في هذه الدنيا ينقلب خيرا لك وفضلا ، حتى المصائب والمحن ، وحتى الشرور والفتن ، تنقلب أجورا لك عظيمة ، وثوابا لك جزيلا ، ونعمة من الله عليك لا تبلغ شكرها، وهكذا هو شأن المؤمن مع ربه عز وجل .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب