0 / 0

لماذا عهد معاوية رضي الله عنه بالخلافة لابنه يزيد ؟

السؤال: 186682

لماذا بعد تنازل الحسن رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه ، وحسب معرفتي ، فقد اتفقا على أنه بعد وفاة معاوية سيتم اختيار الخليفة عن طريق الشورى ، إذن فلماذا بعد وفاة معاوية تسلم الحكم بعده يزيد بن معاوية ، يعني أليس هذا خرقا واضحا لما اتفق عليه الصحابيان ، أم إن الدافع لذلك هو خوف معاوية رضي الله عنه من عودة الفتنة من جديد بين المسلمين ، لذلك آثر تولية ابنه يزيد ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه صحابي جليل من كُتَّاب الوحي ، كان مشهورا بالحلم والعلم والفضل ، ومآثره وفضائله كثيرة ، ولا يجوز الطعن فيه بحال ؛ فهو إمام من أئمة المسلمين ، قام بين الناس بالعدل ما استطاع ، وما حصل في أيامه من الفتن : نكفّ عن الكلام فيها ولا نخوض بالباطل ، ونشهد لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم بالخيرية والفضل ، ومن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر .
راجع جواب السؤال رقم : (140984) .

ثانيا :
لما توفي علي رضي الله عنه وصلى عليه ابنه الحسن رضي الله عنه بايعه الناس بالخلافة ، ثم ألحوا عليه في النفير لقتال أهل الشام ، ولم يكن من نيته أن يقاتل أحدا ، ولكن غلبوه على رأيه ، فاجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله ، وسار بالجيوش قاصدا بلاد الشام ، ثم حصل في الجيش فتنة واختلاف وتفرق ، فلما رأى الحسن بن علي تفرق جيشه عليه مقتهم ، وكتب عند ذلك إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما يراوضه على الصلح بينهما ، فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة ، وتم الصلح ، وبايع لمعاوية بالخلافة ، وتنازل له عنها ، وكان ذلك سنة أربعين من الهجرة ، ولهذا يقال له عام الجماعة ؛ لاجتماع الكلمة فيه على معاوية .
وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا وهو تركه الإمارة وطلبها ، وحقنه لدماء المسلمين ، رغبة فيما عند الله ؛ فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد معاوية حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد .
روى البخاري (2704) عن أبي بَكْرَةَ قال : ” رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ : ( إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) .

ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها ، واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق ، ترحل الحسن بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام .
فلما احتضر معاوية دعا يزيد فأوصاه بما أوصاه به ، وبايع الناسُ يزيد ، وفيهم كثير من الصحابة ، منهم ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، وامتنع الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم عن مبايعته .
انظر : “البداية والنهاية” (8/16-21) ، (8/175) .
وقال ابن بطال رحمه الله :
” سلّم الحسن الأمر إلى معاوية وصالحه وبايعه على السمع والطاعة على إقامة كتاب الله وسنة نبيه ، ثم دخلا الكوفة فأخذ معاوية البيعة لنفسه على أهل العراقين ، فكانت تلك السنة سنة الجماعة لاجتماع الناس واتفاقهم وانقطاع الحرب ، وبايع معاوية كلُّ من كان معتزلا عنه ، وبايعه سعد بن أبى وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة ، وتباشر الناس بذلك ، وأجاز معاوية الحسن بن على بثلاثمائة ألف ، وألف ثوب ، وثلاثين عبدا ، ومائة جمل ، وانصرف الحسن بن على إلى المدينة ، وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة ، وولى البصرة عبد الله بن عامر ، وانصرف إلى دمشق واتخذها دار مملكته “انتهى من “شرح صحيح البخارى” (8/ 97) .

ثالثا :
ذكر أهل العلم أن الحسن بن علي اشترط على معاوية أن لا يعهد لأحد من بعده بالخلافة ، إنما يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين .
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
” ولما تصالحا كتب به الحسن كتابا لمعاوية صورته :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان :
صالحه على أن يسلم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيهم بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله ، وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهدا ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة سرا ولا جهرا ، ولا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق .
أشهد عليه فلان ، وفلان بن فلان ، وكفى بالله شهيدا
ولما انبرم الصلح التمس معاوية من الحسن أن يتكلم بجمع من الناس ، ويعلمهم أنه قد بايع معاوية وسلم إليه الأمر ، فأجابه إلى ذلك ” .
انتهى من “الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة” (2 /399) .
وانظر كتاب : “الحسن بن علي رضي الله عنه” للدكتور الصلابي (ص 253) .

رابعا :
لما رأى معاوية رضي الله عنه ما عليه الناس من الاختلاف والاضطراب وما هم فيه من الفتنة ، خشي عليهم من بعده تفاقم الحال ، ومزيد الخلاف والاضطراب ، فرأى أن المصلحة في أخذ البيعة لابنه يزيد من بعده ؛ فشاور كبار الصحابة وسادات القوم وولاة الأمصار ، فجاءت الموافقة منهم ، وجاءته الوفود بالموافقة على بيعة يزيد ، وبايعه الكثير من الصحابة ؛ حتى قال الحافظ عبد الغني المقدسي ” خلافته صحيحة ، بايعه ستون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر ” وقد ثبت في صحيح البخاري (7111) أن ابن عمر بايع يزيد ؛ فعَنْ نَافِعٍ قَالَ : ” لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ : ” إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ “
ولعل السبب الذي دفع معاوية لأخذ البيعة ليزيد، أنه رأى أن يمنع الخلاف ، ويجمع الكلمة في هذه المرحلة الحرجة التي تعيشها الأمة ، مع نظره لكثرة المطالبين بالخلافة ، فرأى رضي الله عنه أن في توليته ليزيد صلاحا للأمة ، وقطعاً لدابر الفتنة باتفاق أهل الحل والعقد عليه .
ينظر : “المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام” (13 /228) .

وقال ابن خلدون رحمه الله :
” والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية ، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم ، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع ، وأهل الغلب منهم ، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع ، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك .
وحضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم عنه : دليل على انتفاء الريب فيه ، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم كلهم أجل من ذلك ، وعدالتهم مانعة منه ” انتهى من “مقدمة ابن خلدون” (ص 109) .
وقال أيضا :
” عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة ” انتهى من “مقدمة ابن خلدون” (ص 106) .
وقال محب الدين الخطيب رحمه الله في تعليقه على “العواصم من القواصم” (ص229) :
” عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس من الفتن والمجازر إذا جعلها شورى ، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه ” انتهى .

والحاصل أن معاوية رضي الله عنه قد فعل في ذلك ما يراه الأصلح لحال الأمة وقت اختلافها وحصول الاضطراب في صفوفها ، ورأى أن تحصيل مقام الاجتماع ودرء الفتنة ، أولى من الوفاء بالشرط الذي شرطه عليه الحسن ، رضي الله عنه ، عند تنازله عن طلب الخلافة ، وبيعته له ؛ وقد جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .

ثم إن غاية ما يقال في هذا الأمر : أن معاوية رضي الله عنه ، وهو خليفة المسلمين ، اجتهد في هذه النازلة ؛ فإن كان قد أصاب فيه : فله أجران ، وإن كان قد أخطأ ، فله أجر واحد ، إن شاء الله ، وما وقع له في ذلك أو في غيره من نقص أو قصور أو تقصير ، فهو في محل العفو من الرحمن الرحيم ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أولى الناس بمقام العذر والعفو من الله جل جلاله .

والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android