الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
روى البخاري (3803) ، ومسلم (2466) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( اهْتَزَّ العَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ) .
قال الذهبي رحمه الله :
” هذا متواتر ؛ أشهد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ” .
انتهى من “العلو للعلي الغفار” (ص 89) .
ورواه تمام في ” فوائده ” (16) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، مِنْ فَرَحِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ )
وجوّد إسناده الألباني في “الصحيحة” (1288) .
وفي ” السنة ” ، لعبد الله بن الإمام أحمد (1058) : ” عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ” لَقَدِ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ جَلَّ وَعَزَّ بِجِنَازَةِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ فَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ: فَرَحًا بروحهُ ” .
ثانيا :
يجب إمرار أحاديث الصفات كما جاءت ، وكذا ما يتعلق بها من أمور الغيب ؛ فروى الآجري في “الشريعة” (3/ 1146) عن ” الْوَلِيد بْن مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ , وَالثَّوْرِيَّ , وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ , وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ: عَنِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الصِّفَاتُ؟ فَكُلُّهُمْ قَالَ: ” أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا تَفْسِيرٍ ” وفي رواية : ” أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفِيَّةٍ ” . رواه البيهقي في “الاعتقاد” (ص/ 118) .
وقد تقدم في جواب السؤال رقم : (138920) ، (178915) بيان أن عقيدة أهل السنة والجماعة في صفات الرب تعالى أنهم يثبتونها ، ويثبتون معانيها التي تدلُّ عليها على حقيقتها ووضعها اللغوي ، ويفوضون العلم بالكيفيات والماهيات ، مع اعتقاد أنها لا يُفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين .
فنؤمن بأن الرحمن على العرش استوى ، ونؤمن بأن العرش اهتز حقيقة لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وقد ورد في بعض الأثر : أن ذلك من فرح الرب تعالى ، على ما سبق ، ولا يقال : كيف استوى الرحمن على العرش ؟ كما لا يقال : كيف اهتز العرش لموت سعد ؟ وإنما نُمرّ ذلك ونؤمن به بلا كيف ، ولا تأويل ، ولا تشبيه ولا تمثيل .
قال الذهبي رحمه الله :
” وَالعَرْشُ خَلْقٌ لِلِّهِ مُسَخَّرٌ ، إِذَا شَاءَ أَنْ يَهْتَزَّ اهْتَزَّ بِمَشِيْئَةِ اللهِ ، وَجَعَلَ فِيْهِ شُعُوْراً لِحُبِّ سَعْدٍ ، كَمَا جَعَلَ تَعَالَى شُعُوْراً فِي جَبَلِ أُحُدٍ بِحُبِّهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى : ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) سَبَأ/ 10 ، وَقَالَ : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ ) الإِسْرَاءُ/ 44 ، ثُمَّ عَمَّمَ فَقَالَ : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) الإسراء/ 44 ، وَهَذَا حَقٌّ ، وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُوْدٍ: ” كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيْحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ ” وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ سَبِيْلُهُ الإِيْمَانُ ” انتهى من “سير أعلام النبلاء” (3/ 183-184) .
وقال البغوي رحمه الله :
” وَالأَوْلَى إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ( أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ) ، وَلا يُنْكَرُ اهْتِزَازُ مَا لَا رَوْحَ فِيهِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ ، كَمَا اهْتَزَّ أُحُدٌ وَعَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَكَمَا اضْطَرَبَتِ الأُسْطُوَانَةُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ ” انتهى من “شرح السنة” (14/ 180-181) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” وَمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِبْشَارُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَفَرَحُهُمْ ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى مَا قَالَ … مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ وَلَفْظَهُ يَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ ” .
انتهى من “مجموع الفتاوى” (6/ 554) .
ثالثا :
ليس في اهتزاز العرش لموت مخلوق نقيصة للرب سبحانه ، وأي نقيصة في ذلك ؟ وسواء قدرنا أن الاهتزاز إنما كان من فرح العرش نفسه بمقدم روح سعد ، رضي الله عنه ، واستعظامه لذلك ، على ما مر في كلام بعض أهل العلم ، أو كان من فرح الرحمن جل جلاله ومحبته للقاء عبده سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كما في الحديث : ( مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ )
رواه البخاري (6507) ومسلم (2683) .
فأي نقيصة تلحق العرش بذلك ، فضلا عن أن ينسب منه نقص لرب العرش العظيم ، جل جلاله ؟!!
إن الأصل الذي ينبغي أن نبني عليه كلامنا : هو صحة الحديث من عدمه ، وقد سبق بيان ثبوت الحديث من غير أدنى شك ، وأنه متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكرنا كلام أهل العلم في توجيهه وبيانه .
واهتزاز العرش ، وأطيط السماء ، ونحو ذلك : ليس من صفة الرحمن جل جلاله ، كما نبهنا ، وإنما هو من صفة العرش المخلوق .
قال الذهبي رحمه الله :
” وَلَيْسَ لِلأَطِيطِ مَدْخَلٌ فِي الصِّفَاتِ أَبَدًا ؛ بَلْ هُوَ كَاهْتِزَازِ الْعَرْشِ لِمَوْتِ سَعْدٍ ، وَكَتَفَطُّرِ السَّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَنَحْو ذَلِك ” انتهى من “العلو” (107) .
يراجع للفائدة جواب السؤال رقم : (128724) .
والله تعالى أعلم .