0 / 0

الجواب عن آثار الصحابة الدالة على طهارة الدم ؟

السؤال: 207812

ذكرتم في موقعكم أن الدم نجس ، فكيف نجيب عن الآثار الواردة عن الصحابة التي يفيد ظاهرها طهارة الدم ، كحديث الصحابي الذي صلى وهو ينزف دما ، وأن عمر صلى وجرحُه يسيل دما ، وكذلك جاء عن ابن مسعود أنه صلى وعليه دم من جزور نحَرَها ، وقول الحسن البصري : ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم ، ألا يدل كل هذا على طهارة الدم ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

 

أولاً :
مسألة ” نجاسة الدم ” من المسائل التي كثر الكلام حولها بين المعاصرين ، حتى كُتبت فيها الرسائل والأبحاث .
والقول الذي عليه عامة العلماء سلفاً وخلفاً : أن الدم المسفوح نجسٌ .
” والمسفوح : الجاري الذي يسيل ” انتهى من ” الجامع لأحكام القرآن ” (7/123) .
وهو يشمل : الدم الذي يسيل وينهَمِر من الحيوان في حال الحياة ، أو عند الذبح ، والدم الذي يسيل من الإنسان عند جرحه .
وهذا الدم نجس ، عند جميع العلماء ، ولم يعرف عن أحد من علماء هذه الأمة وسلفها القول بطهارته ، وأول من شهَّر القول بطهارته من المتأخرين : هو الشوكاني ، ثم تبعه صدِّيق حسن خان ، ومن بعدهم الشيخ الألباني في هذا العصر ، ومن ثم عمَّ القول به حتى شاع بين كثير من طلبة العلم .

وقد دل على نجاسة الدم المسفوح : القرآن ، والسنة ، والإجماع .
1- أما القرآن ، فقوله سبحانه وتعالى : ( قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الأنعام/ 145 .
ففي هذه الآية دلالة على أن الدم المسفوح رجس ، والرجس هو النجس .

وقد اعتُرِض على الاستدلال بهذه الآية من وجهين :
الأول : أن المراد بالرجس في هذه الآية المحرم لا النجس .

قال الشوكاني رحمه الله : ” المراد بالرجس هنا الحرام ، كما يفيده سياق الآية والمقصود منها ، فإنها وردت فيما يحرم أكله ، لا فيما هو نجس … ولا تلازم بين التحريم والنجاسة ، فقد يكون الشيء حراما وهو طاهر ” انتهى من ” السيل الجرار” (1/26) .

ويجاب عن هذا : بأنه لو حُملت كلمة رجس على أنها تعنى : الحرام ، لكان في الآية تكرارا ، لأن التحريم قد تم بيانه في أول الآية ، وعلى قولهم يكون معنى الآية : ليس فيما أوحي إلي محرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير فإنه محرم .

وقال بعضهم : الرجس في اللغة القذر ، فكلمة (رجس) ، لا تعني أنه نجس ، بل مستقذر .
والجواب عن ذلك : أن كلمة رجس وإن كانت تعني في اللغة القذر ، لكن المراد بها هنا المعنى الشرعي وهو الحكم بالنجاسة ، فإن الأصل في كلام الشارع حمله على المعنى الشرعي لا اللغوي .

قال الإمام الطبري رحمه الله :
” الرجس : النجس والنتن ” انتهى من ” جامع البيان ” (8/53) .

وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
” والرجس هو : القذر والنجس الذي يجب اجتنابه ” انتهى من ” شرح العمدة ” (1/109) .

الاعتراض الثاني : أن الضمير في قوله : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) يعود إلى الخنزير فقط .

قال الشوكاني رحمه الله : ” ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى : ( فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ، لكان ذلك مفيدا لنجاسة الدم المسفوح ، ولكنه لم يَرد ما يفيد ذلك ، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل ، أو إلى الأقرب ، والظاهر رجوعه إلى الأقرب وهو لحم الخنزير ؛ لإفراد الضمير ” انتهى من ” الدراري المضية ” (1/32) .

والجواب عن ذلك : أن الضمير وإن كان في عوده خلاف بين المفسرين ، إلا أن رجوعه للجميع هو الأقرب والأرجح .

قال ابن أبي العز الحنفي :
” قوله : ( فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) … يعود الضمير إلى المذكور كله ، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير ؛ فإن الأصل : قل لا أجد فيما أوحي إليّ شيئاً محرماً ، فحذف الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه ، ثم قال : إلا كذا وكذا ، فإن هذا المذكور كله رجس ، وإعادة الضمير إلى بعض المذكور فيه نظر ” انتهى من ” تفسير الإمام ابن أبي العز ” (2/13) .

وقال ابن عاشور رحمه الله :
” والأظهر أن يعود إلى جميع ما قبله ، وأنّ إفراد الضّمير على تأويله بالمذكور ، أي فإنّ المذكور رجس ” انتهى من ” التحرير والتنوير” (8/138) .

وقال الشيخ ابن عثيمين :
” فإن قوله ( محرماً ) صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : شيئاً محرماً ، والضمير المستتر في ( يكون ) يعود على ذلك الشيء المحرم ، أي : إلا أن يكون ذلك الشيء المحرم ميتة.. إلخ .
والضمير البارز في قوله ( فإنه ) يعود أيضاً على ذلك الشيء المحرم ، أي : فإن ذلك الشيء المحرم رجس .
وعلى هذا فيكون في الآية الكريمة بيان الحكم وعلته في هذه الأشياء الثلاثة : الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير .
ومن قصر الضمير في قوله (فإنه) على لحم الخنزير ، معللاً ذلك بأنه أقرب مذكور فقصره قاصر ، وذلك لأنه يؤدي إلى تشتيت الضمائر ، وإلى القصور في البيان القرآني حيث يكون ذاكرا للجميع ( الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ) حكما واحدا ، ثم يعلل لواحد منها فقط ” انتهى من ” الشرح الممتع ” (15/9) .

وقال رحمه الله – أيضاً – :
” من قصره على لحم الخنزير معللاً بأنه لو كان الضمير للثلاثة لقال : فإنها أو فإنهن ، فجوابه : أنَّا لا نقول إن الضمير للثلاثة ، بل هو عائد إلى الضمير المستتر في ـ يكون ـ المخبر عنه بأحد الأمور الثلاثة ” انتهى من ” مجموع فتاوى ابن عثيمين ” (11/264) .

وقال رحمه الله – أيضا- : وقال: ” ولو تأملت الآية وجدت أن هذا هو المتعين” .
انتهى من ” فتاوى نور على الدرب ” .

2- ومن السنة : حديث أسماء الذي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم فيه بغسل دم الحيض .
، وقد بوب عليه البخاري ( باب غسل الدم ) ، والحديث وإن جاء في دم الحيض ، إلا أنه لا فرق بين دم وآخر ، فالدم كله جنس واحد ، من أي محلٍّ خرج .

قال الإمام الشافعي رحمه الله :
” وفي هذا دَلِيلٌ على أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ نَجَسٌ ، وَكَذَا كُلُّ دَمٍ غَيْرُهُ ” انتهى من ” الأم ” (1/67) .

وكذلك حديث المستحاضة فاطمة بنت أبي حبيش ، وقد أمرها النبي بغسل دم الاستحاضة ، وقال لها : ( فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ) رواه البخاري (221) ، ومسلم (501) .

وهذا يدل على نجاسة الدم من وجهين :
* أن لفظة الدم جاءت معرفة بالألف واللام ، فتشمل كل دم ، وأي دم كان .
قال ابن حزم رحمه الله : ” وَهَذَا عُمُومٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَوْعِ الدَّمِ ، وَلَا نُبَالِي بِالسُّؤَالِ إذَا كَانَ جَوَابُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مَرْدُودٍ بِضَمِيرٍ إلَى السُّؤَالِ” انتهى من ” المحلى بالآثار ” (1/115) .
ومعنى كلامه أن سؤال المرأة كان عن دم الاستحاضة ، لكن جوابه صلى الله عليه وسلم كان عاماً ، ولم يقل لها : اغسليه ، أو : اغسلي دم الحيض أو الاستحاضة ، ولكن أتى بلفظ عام ، ( فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ) ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

* أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن دم الاستحاضة دم عرق ، والدم الخارج من سائر بدن الإنسان والحيوان دم عرق كذلك ، فيكون حكمه حكم دم الاستحاضة .

3- وأما الإجماع ، فقد نقله جمهرة من العلماء من مختلف المذاهب :
وعلى رأسهم الإمام أحمد ، فقد سئل الإمام أحمد عن الدم ، وقيل له : الدم والقيح عندك سواء ؟
فقال رحمه الله : ” الدم لم يختلف الناس فيه ، والقيح قد اختلف الناس فيه ” انتهى من ” شرح عمدة الفقه ” لابن تيمية (1/105) .

وقال ابن عبد البر رحمه الله :
” وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس ” انتهى من ” التمهيد ” (22/230) .

وقال رحمه الله – أيضاً – :
” لا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس ” انتهى من “الاستذكار” (1/291) .

وقال ابن حزم الظاهري : ” وَاتَّفَقُوا على أَن الْكثير من الدَّم ، أَي دم كَانَ ، حاشا دم السّمك وَمَا لَا يسيل دَمه : نجس ” انتهى من ” مراتب الإجماع ” (ص/19) .
وأقره شيخ الإسلام في نقد مراتب الإجماع ولم يتعقبه بشيء .

وقال ابن العربي المالكي رحمه الله :
” اتفق العلماء على أن الدم حرام ، نجس ، لا يؤكل ، ولا ينتفع به ” انتهى من ” أحكام القرآن ” (1/79) .

وقال القرطبي رحمه الله :
” اتفق العلماء على أن الدم حرام ، نجس ” انتهى من ” الجامع لأحكام القرآن ” (2/221) .

وكذلك نقل الإجماع : ابن رشد في ” بداية المجتهد ” (1/79) .

وقال النووي رحمه الله :
” الدلائل على نجاسة الدم متظاهرة ، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين ، إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال : هو طاهر ، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم ، لا سيما في المسائل الفقهيات ” انتهى من ” المجموع ” (2/576) .

وقال القرافي رحمه الله :
” والدم المسفوح نجس إجماعاً ” انتهى من ” الذخيرة ” (1/185) .

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني :
” والدم نجس اتفاقاً ” انتهى من ” فتح الباري ” (1/352) .

وقال بدر الدين العيني رحمه الله :
” الدم نجس بالإجماع ” انتهى من ” عمدة القاري ” (5/59) .

وقال شمس الدين الزركشي الحنبلي رحمه الله :
” الخارج من الإنسان ثلاثة أقسام : طاهر بلا نزاع ، وهو : الدمع ، والعرق ، والريق ، والمخاط ، والبصاق ، ونجس بلا نزاع ، وهو: البول ، والغائط ، والودي ، والدم وما في معناه ، ومختلف فيه : وهو المني والمذي ” انتهى من ” شرح الزركشي على مختصر الخرقي ” (2/40) .

وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله :
” وَالدَّمُ نَجِسٌ بِلَا خِلَافٍ ” انتهى من ” أضواء البيان” (2/399) .

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” فإن الدم المسفوح لم نعلم قائلاً بطهارته ” انتهى من ” مجموع فتاوى ابن عثيمين ” (11/261) .

فالأَوْلى في مقتضى الشرع والعقل اتباع هذا القول الذي تواتر العلماء على نقله وتقريره ، فهو قول مبني على النص الصريح للكتاب والسنة .

وتقرير الشوكاني ومن تبعه في طهارة الدم ، قول مرجوح ، مخالف للدليل والإجماع ، فلا ينبغي جعله مثارا للحيرة والاضطراب ، كما لا يجوز الظن بأن العلماء يجمعون في مسألة ، ولا يكون لهم فيه دليل صحيح صريح ، كما يظن بعض طلبة العلم في مسألة نجاسة الدم وغيرها من المسائل .
ويلزم من يدعي أن الإجماع غير صحيح : أن يثبت وجود مخالف من السلف – ولو واحدا – ، لينتقض الإجماع .

ثانياً :
من أبرز ما يستدل به من يقول بطهارة الدم من المتأخرين : قصة الصحابي الذي جُرح وهو يحرس الصحابة في الشعب ، واستمر في صلاته .
وقد رواها الإمام أحمد في ” مسنده ” (14177) ، وأبو داود في ” سننه ” (170) ، والحديث حسنه النووي والشيخ الألباني .

قالوا : فلو كان الدم نجساً لقطع صلاته ، فاستمراره بالصلاة مع وجود الدم ، دليل على أن الدم طاهر .

والجواب عن هذا الحديث من وجهين :
الأول : أن هذا الحديث يرويه عن جابر بن عبد الله ابنه : ” عَقيل بن جابر” ، وهو مجهول .
قال ابن أبي حاتم رحمه الله : ” سمعت أبي يقول : عقيل بن جابر ، لا أعرفه ” انتهى من ” الجرح والتعديل ” (6/218) .
وقال الذهبي رحمه الله : ” فِيهِ جَهَالَة ” انتهى من ” المغني في الضعفاء ” (2/438) .
وكذا قال ابن عبد الهادي رحمه الله : ” وعَقيل بن جابر : فيه جهالةٌ ” انتهى من “تنقيح التحقيق” (1/292) .
ولذلك ذكر هذا الحديث البخاري في صحيحه معلقاً ، بصيغة التمريض .

الثاني : أن هذه الحالة خارج محل النزاع ، لأن هذا الصحابي معذور ، والمعذور لا يضره جريان دمه كما في سلس البول والاستحاضة .
فالدم النازل من هذا الصحابي ، هو دم نزيف ، والنزيف يعد رخصةً تبيح لصاحبها أن يصلي على حاله ، ولو جرى معه الدم ، لأنه لا يستطيع إيقافه .

ومثله حديث عمر لما طعنه أبو لؤلؤة أكثر من ثلاث طعنات ، ” فَصَلَّى عُمَرُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا ” انتهى من ” الموطأ ” (74) .

فهذه حالة ضرورة لا يقاس عليها غيرها .
فما دام الدم يسيل بشكلٍ متواصل ولا يمكن وقفه ، فإنه يأخذ حكم من به سَلَس البول أو حكم المستحاضة ، فيصلي ولو قطر البول ولو سال الدم ، ولا يدل ذلك في الحالتين على طهارة البول أو على طهارة الدم .

قال أبو الوليد الباجي رحمه الله :
” وَخُرُوجُ الدَّمِ مِنْ الْجُرْحِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ ، وَالثَّانِي أَنْ يَجْرِيَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ .
فإِنْ اتَّصَلَ خُرُوجُهُ ، فَعَلَى الْمَجْرُوحِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَالِهِ ، وَلَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ لَا يُمْكِنُهُ التَّوَقِّي مِنْهَا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُهَا ….
وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْ نَجَاسَتِهِ وَدَمِهِ ، فَإِنْ انْبَعَثَ فِي الصَّلَاةِ بِفِعْلِ الْمُصَلِّي أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ لِنَجَاسَةِ جِسْمِهِ وَثَوْبِهِ ، فَيَغْسِلْ مَا بِهِ مِنْ الدَّمِ ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْهَا ” انتهى من ” المنتقى ” (1/86) .

وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
” إنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا يَرْقَأُ ، مِثْلَ مَا أَصَابَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاتِّفَاقِهِمْ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ أَوْ قِيلَ : لَا يَنْقُضُ ، سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ) ، وَقَالَ تَعَالَى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) … وَكُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؛ بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (21/223) .

ووفق هذا الكلام يفهم قول الحسن البصري : ” مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ ” ، ذكره البخاري تعليقاً ، ووَصَلَهُ سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحِيح كما قال الحافظ في ” الفتح ” (1/281) .
فهذا محمول على حال الاضطرار في الحرب .
ويؤيد ذلك أن الحسن البصري رحمه الله : سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَحْتَجِمُ مَاذَا عَلَيْهِ ؟ فقَالَ : ” يَغْسِلُ أَثَرَ مَحَاجِمِهِ ” انتهى من ” مصنف ابن أبي شيبة ” (1/47) .
فلو كان الحسن البصري يرى طهارة الدم ، لما أمر بغسل أثر المحاجم من الدماء .
وروى عبد الرزاق الصنعاني في ” المصنف ” (1/376) عن مَعْمَر قال : ” وَكَانَ الْحَسَنُ يَنْصَرِفُ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ الدَّمَ ” انتهى .
وعَنِ الْحَسَنِ ، وَمُحَمَّدٍ بن سيرين أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يُلَطَّخَ رَأْسُ الصَّبِيِّ مِنْ دَمِ الْعَقِيقَةِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ : ” الدَّمُ رِجْسٌ” انتهى من ” مصنف ابن أبي شيبة ” (5/116) .

وهذه الآثار تدل دلالة واضحة على أن الحسن البصري كان يرى نجاسة الدم ، ولذلك لا يمكن أنة نستدل بقوله عن الصحابة بأنهم كانوا يصلون في جراحاتهم على طهارة الدم .

قال العيني رحمه الله :
” لَا يلْزم من قَوْله : ( يصلونَ فِي جراحاتهم ) ، أَن يكون الدَّم خَارِجاً وقتئِذٍ ، وَمن لَهُ جِرَاحَة لَا يتْرك الصَّلَاة لأَجلهَا ؛ بل يُصَلِّي وجراحته إِمَّا معصبة بِشَيْء ، أَو مربوطة بجبيرة ، ومَعَ ذَلِك لَو خرج شَيْء من ذَلِك لا تفْسد صلَاته ” انتهى من ” عمدة القاري ” (3/51) .

ثالثاً :
وأما ما روي عن محمد بن سيرين عن يحيى الجزَّار قال : صَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلَى بَطْنِهِ فَرْثٌ وَدَمٌ مِنْ جُزُرٍ نَحَرَهَا ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . رواه عبد الرزاق في “المصنف” (459) وصحح إسناده الألباني .

فهذا يجاب عنه من ثلاث وجوه :
الوجه الأول : من حيث ثبوته : ففي سماع يحيى الجزَّار من ابن مسعود نظر ، فقد نفى الأئمة سماعه من علي بن أبي طالب ، وابن مسعود أقدم وفاةً من علي . ينظر : ” المراسيل ” لابن أبي حاتم (ص/246) .
ولذلك ذكر العُقيلي في ” الضعفاء ” (4/396) عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ : قَالَ لِي مُحَمَّدٌ [ ابن سيرين ] : إِنِّي أَعْرِضُ حَدِيثِي عَلَيْكَ ، وَعَلَى أَيُّوبَ ، فَعَرَضَ عَلَيْنَا ، فَمَرَّ بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى وَعَلَى بَطْنِهِ فَرْثٌ وَدَمٌ ، فَقَالَ : أُنْكِرُ هَذَا .
ولذلك بعد أن روى ابن أبي شيبة أثر ابن مسعود ، عقبه بقوله : ” حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ : أَخْبَرَنَا يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدُ ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ ” انتهى من ” مصنف ابن أبي شيبة ” (1/344) .

الوجه الثاني : أنه إن صحّ ، محمول على أن الدم الذي أصابه شيء يسير ، والدم اليسير معفوٌّ عنه كما هو معلوم .

الوجه الثالث : أن العلماء فهموا من هذا الأثر أن ابن مسعود يرى أن طهارة الثوب – وإن كانت واجبة – ، لكنها ليست من شروط صحة الصلاة ، ولم يفهموا منه طهارة الدم .

قال ابن المنذر رحمه الله :
” وَأَسْقَطَتْ طَائِفَةٌ غَسْلَ النَّجَاسَاتِ عَنِ الثِّيَابِ ، وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَحَرَ جَزُورًا فَأَصَابَهُ مِنْ فرْثهَا وَدَمِهَا فَصَلَّى وَلَمْ يَغْسِلْهُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ ” انتهى من ” الأوسط ” (2/156) .

وقال الماوردي رحمه الله :
” وَإِنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : إِنْ صَلَّى وَعَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، قَلَّتِ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ ، أَيُّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَحَرَ جَزُورًا وَأَصَابَ ثِيَابُهُ مِنْ فَرْثِهَا وَدَمِهَا ، فَقَامَ وَصَلَّى ” انتهى من ” الحاوي الكبير” (2/240) .

قالَ أَبُو جَعْفَر الطحاوي رحمه الله :
” وَهَذَا الْمَذْهَبُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ” انتهى من ” شرح مشكل الآثار ” (10/103) .

وقد لخَّص الشيخ ابن عثيمين الإجابة عن جميع الآثار الواردة عن الصحابة في هذا الباب ، فقال رحمه الله : ” وأما ما ورد عن بعض الصحابة مما يدل ظاهره على أنه لا يجب غسل الدم والتطهير منه ، فإنه على وجهين :
أحدهما : أن يكون يسيراً يُعفى عنه ، مثل ما يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لا يرى بالقطرتين من الدم في الصلاة بأساً ، وأنه يدخل أصابعه في أنفه فيخرج عليها الدم فيحته ثم يقوم فيصلي ، ذكر ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه .
[ ومثله ما جاء عن ابن عمر أنه عَصَرَ بَثْرَةً فِي وَجْهِهِ ، فَخَرَجَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ ، فَحَكَّهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ، رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح ، وقوله ( شيء من دم ) واضح في الدلالة على أنه شيء يسير ] .

ثانيهما : أن يكون كثيراً لا يمكن التحرز منه ، مثل ما رواه مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب حين طُعن ، صلى وجرحه يثعب دماً ، فإن هذا لا يمكن التحرز منه إذا لو غسل لاستمر يخرج ، فلم يستفد شيئاً ، وكذلك ثوبه لو غيَّره بثوبٍ آخر – إن كان له ثوبٌ آخر- لتلوث الثوب الآخر فلم يستفد من تغييره شيئاً .
فإذا كان الوارد عن الصحابة لا يخرج عن هذين الوجهين ، فإنه لا يمكن إثبات طهارة الدم بمثل ذلك ” انتهى من ” مجموع فتاوى ابن عثيمين ” (11/266) .

وكذلك قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله :
” وأما آثار الصحابة فلا تفيد طهارة الدم ، وإنما تدل على العفو عن يسيره ، وعدم نقض الوضوء به ، وأما صلاة عمر وغيره مع جريان دمه ، فإنما هو للضرورة ، وعدم القدرة على إمساكه ، فهو كمن به سلس بول ونحوه ممن حدثه دائم ” انتهى من من تعليقه على ” شرح الزركشي على مختصر الخرقي ” (2/41) .

رابعاً :
يستثنى مما سبق : دم الشهيد ، فما يصيب الشهيد من دمه المسفوح مستثنى من عموم الدماء المسفوحة ؛ للنصوص الواردة في إبقاء دمه عليه وعدم إزالتها .
فدم الشهيد ما دام عليه فهو طاهر ؛ لما رواه النسائي (1975) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتْلَى أُحُدٍ : ( زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلَّا أَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُرْحُهُ يَدْمَى ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ ) .
فلو كان دم الشهيد نجساً لأمر بإزالته عن بدنه ، فلما أمر بدفنهم بدمائهم دل ذلك على طهارته .
” فَإِنِ انْفَصَل الدَّمُ عَنِ الشَّهِيدِ كَانَ الدَّمُ نَجِسًا ” انتهى من ” الموسوعة الفقهية ” (40/89) .

والقول بطهارة دم الشهيد هو مذهب الحنفية والحنابلة . ينظر: ” البحر الرائق ” (1/241) ، و ” كشاف القناع ” (1/219) ، و ” شرح العمدة ” لابن تيمية (1/109) .

قال الشيخ السعدي رحمه الله :
” جَمِيعَ الدِّمَاءِ نَجِسَةٌ إلا : دم مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَة ، ومَا يَبقَى بَعدَ الذبح في الْعُرُوق وَاللَّحْم ، فَهُوَ طَاهِرٌ ، وإلا : دم الشهيدِ عَلَيهِ خَاصَّة ” انتهى من ” إرشاد أولى البصائر والألباب ” (ص/ـ20) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android