تنزيل
0 / 0

لماذا كان إلقاء المؤمن نفسه في نار الدجال مأموراً به ولا يعد انتحاراً ؟

السؤال: 214731

ذكرتم أنه يمكن الكذب بخصوص الدين ، إذا كان المرء يخاف على نفسه ، لكن ماذا لو اختار المرء الموت ، كما فعل بعض الصالحين في الماضي كماشطة بنت فرعون التي ضحت بنفسها وأبنائها من أجل دينها ؟ وهل يُعتبر ذلك انتحاراً ؟
وسمعت بعض العلماء الثقات يقولون : إن الدجال سيحكم العالم ، وإن على المؤمن أن يفر منه إلى مدينة أخرى ، فإن كان ولا بد من المواجهة ، فليواجه وليعلم أن الدجال له نار وجنة ، وأن ناره جنة ، وجنته نار، وأن على المؤمن أن يقفز في ناره كي يدخل الجنة الحقيقية .
وهنا يأتي التساؤل : أليس هذا انتحارا ، والانتحار محرم في الإسلام ؟ لقد أشرتم إلى هذا المفهوم في بعض الفتاوى ، وقلتم إن الانتحار محرم بجميع أشكاله في الإسلام ، فلماذا جاز هنا ؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
يجوز للمسلم أن يظهر دينه ، ويصدع بالحق ولو أدى ذلك إلى قتله ، ولا يعدّ هذا
انتحارا ؛ فالانتحار أن يباشر هو قتل نفسه ، أو يتسبب في ذلك بسبب غير مشروع ؛ لكنه
هنا ثبت على دينه ، وأظهر كلمة التوحيد ، وليس في هذا قتلا للنفس ، بل الكفار هم
الذين باشروا قتله ، والسبب الذي فعله ، وهو الثبات على دينه ، والصبر على أذى
الكفار : سبب مشروع مطلوب ، إما وجوبا أو ندبا ، وليس هذا من قتل النفس في شيء .

بل هذا حاله كحال المجاهد في سبيل الله ، الذي يصبر على قتال الكفار ، إعلاء لدين
الله ، كما أمره الله بذلك ، وإن كان فيه قتل نفسه ، وذهاب ماله ، إلا أنه لم يباشر
هو قتل نفسه ، بل هو قام بما أمره الله من العبودية المشروعة ، إما وجوبا ، وإما
ندبا ، وإن ترتب على ذلك : قتل نفسه ، وذهاب ماله .
عن خَبَّاب قال : ” أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْوَ
مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً ، وَهْوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ – وَقَدْ لَقِينَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً – فَقُلْتُ يا رسول الله ، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لنا ؟
فَقَعَدَ وَهْوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: ( لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ
لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ ، مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ ،
مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ
رَأْسِهِ ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ .
وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ
إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ ) . زَادَ بَيَانٌ وَالذِّئْبَ
عَلَى غَنَمِهِ . رواه البخاري (3852 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
“والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال لهم ذلك ، آمرا لهم بالصبر على أذى الكفار،
وإن بلغوا بهم إلى حد القتل صبرا ، كما قتلوا المؤمنين صبرا ؛ ومدحا لمن يصبر على
الإيمان حتى يقتل ” .
انتهى من ” قاعدة في الانغماس في العدو ” ( ص 79 ) .
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم : ( 150748 ) .
ثانيا :
حديث الدجال المشار إليه ، هو حديث رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ : ” قَالَ
عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو لِحُذَيْفَةَ : أَلاَ تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : إِنِّي سَمِعْتُهُ
يَقُولُ : ( إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ مَاءً وَنَارًا ، فَأَمَّا
الَّتِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا النَّارُ فَمَاءٌ بَارِدٌ ، وَأَمَّا الَّذِي
يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ فَنَارٌ تُحْرِقُ ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ
فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَى أَنَّهَا نَارٌ ، فَإِنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ ) رواه
البخاري ( 3450 ) .
ورواه مسلم (2934 ) عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ أَنَّهُ قَالَ ، فِي الدَّجَّالِ: ( إِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا .
فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ ، وَمَاؤُهُ نَارٌ . فَلاَ تَهْلِكُوا ) .
فالمسلم أُمِر أن يختار نار الدجال ، لأنّ فيها نجاته ، وفي جنة الدجال الهلاك ،
فلهذا كان اختيار المسلم لنار الدجال اختيارا للنجاة ، وليس هذا من الانتحار في شيء
.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
” وهذا كله يرجع إلى اختلاف المرئي بالنسبة إلى الرائي ، فإما أن يكون الدجال ساحرا
، فيخيل الشيء بصورة عكسه ، وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارا
وباطن النار جنة ، وهذا الراجح‏‏ ” انتهى من ” فتح الباري ” ( 13 / 99 ) .
فتبين بذلك أن ما يتوهمه الناس نارا مهلكة مع الدجال ، فإنها ليست مهلكة للمؤمن ،
بل فيها نجاته ، كما أمره الله ، وتبين أن اختيارها : هو اختيار النجاة ، وليس
اختيارا للهلاك ، ولا قتلا للنفس ، كما توهم السائل .
وإذا قدر أن فيها قتلا للنفس ، فإنما هذا من باب تقديم هلاك النفس ، على ضياع الدين
، والكفر بالله ، وقد قال الله تعالى : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )
البقرة/191 ، وقال تعالى أيضا : ( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ )
البقرة/217 .
قال ابن كثير رحمه الله :
” وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ،
وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالرَّبِيعُ ابن
أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يَقُولُ: الشِّرْكُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ” .
انتهى من ” تفسير ابن كثير ” (1/525).
وقال أيضا :
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أَيْ: قَدْ كَانُوا يَفْتِنُونَ
الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ، حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ
فَذَلِكَ أَكْبَرُ عند الله من القتل ” انتهى من ” تفسير ابن كثير” (1/576) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” وَإِن كَانَ قتل النُّفُوس فِيهِ شَرّ فالفتنة الْحَاصِلَة بالْكفْر، وَظُهُور
أَهله أعظم من ذَلِك فَيدْفَع أعظم الفسادين بِالْتِزَام أدناهما ” انتهى من ” جامع
الرسائل ” (2/142) .
وقال شيخ الإسلام أيضا :
” ومن هذا الباب : الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر؛ فإن
هذا بمنزلة الذي يُقاتِله العدو حتى يُقتَل ولا يستأسِر لهم ، والذي يتكلم بالكفر
بلسانه [وهو] موقنٌ من قلبه بالإيمان ، بمنزلة المستأسِر للعدو.
فإن كان هو الآمر النَّاهي ابتداء ، كَان بمنزلة المجاهد ابتداء.
فإذا كان الأول أَعَزَّ الإيمان وأَذَلَّ الكفر ، كان هو الأفضل.
وقد يكون واجبًا : إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب ، وغلبة الكفر عليها ،
وهي الفتنة ، فإنَّ الفتنة أشدُّ من القتل ، فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما
لا يحصل بالقتل ، وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه تَرَجَّح القتل :
واجبًا تارةً ، ومُستحبًّا أُخرى.
وكثيرًا ما يكون ذلك تخويفًا به فيجب الصبر على ذلك” انتهى من ” جامع المسائل ”
(5/329) .
والله أعلم .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android