0 / 0
22,43716/12/2014

هل الواجب تقليد علماء البلد أم يجزئ تقليد أي عالم ؟

السؤال: 222908

كنتم قد ذكرتم في إحدى الفتاوى أنه على العامي أن يقلد علماء بلده ، ونقلتم قولا للشيخ محمد بن عثيمين يؤيد هذا القول ، وسؤالي هو : أنا مصري ، وأقيم غالب السنة في السعودية ، فهل بناء على هذا القول لا يجوز لي تقليد إلا العلماء المصريين ؟ وهل يجوز لي تقليد علماء غير مصريين مثل الشيخ محمد بن عثيمين ؟ مع العلم أن أقوال العلماء في البلد الواحد تختلف كثيرا .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

من الجيد أن يقرأ السائل في موقعنا شيئا من العلم والفتوى ، فيطلب تركيز البحث أكثر في إحدى الجزئيات والفروع ، ففي ذلك مزيد دقة وتحرير ، ومزيد بيان وتوضيح للإخوة القراء .

ثم اعلم أننا لم نقصد أبدًا في الفتوى رقم :(215535) ،(219722) إيجاب تقليد علماء البلد الذي تقيم فيه مطلقا ، وتحريم تقليد غيرهم من العلماء ، فهذا لم يرد في كلامنا السابق ، ولم نقف على من يقول به من أهل العلم ، ولا نراه متجها من حيث الأدلة . وإنما قصدنا إلى القول بأن المسائل الفقهية على نوعين:

النوع الأول:

مسائل تكتسب صفة محلية ، ولها علاقة بقضايا داخلية ، ولا تخرج عن سياقها الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي الذي وردت فيه ، كمثل الحديث عن حكم المشاركة في المجالس النيابية في بلد معين ، أو حكم الاقتتال الدائر في بلد آخر ، أو إعلان دخول رمضان والعيد ، أو حكم الحجاب وغطاء الوجه ، أو حكم قيادة النساء للسيارات ؛ حيث ارتبطت هذه المسألة بظروف مواجهة الغزو الثقافي والفكري …

ففي هذه المسائل ونحوها نقرر أن الذي ينبغي على السائل أن يكون سؤاله ، وتقليده لعلماء البلد ، لسبب واضح شرعي ومعقول ، وهو أن علماء البلد أقدر على فهم الظروف المحيطة بالمسألة ، وأعرف بسياقها ، وأدرى بعلاقاتها المحلية ، وأقدر على فهم جميع المعطيات المرتبطة بها ، ولذلك غالبا ما يكون عالم البلد أدرى بها وأفقه .

وهذا أمر مجرب ومشاهد في جميع القطاعات ، فالسياسي أدرى بشؤون بلده ، بحكم اطلاعه اليومي على مجريات الأمور فيها ، وكذلك التاجر في المدينة أعرف بمداخل التجارة وخفاياها ، بخلاف الغر الطارئ عليها من الخارج ، وكذلك المفكرون والمثقفون يبحثون عن المختصين في شؤون بلادهم .

ولهذا كانت الجامعات ومراكز الدراسات العالمية عبر التاريخ المعاصر حريصة كل الحرص على تخصيص الباحثين الذين يركزون بحثهم في شؤون بعض البلاد ، كي تكتمل لديهم الصورة عن ذلك البلد بشكل أوضح وأجلى ، فيتخذون القرارات الأنسب في التعامل مع القضايا المتعلقة بذلك البلد محل البحث والدراسة .

ومن قبل ذلك كله كان المحدثون يقولون : الشيخ أعرف ببلديِّه ، وأعلم بمرويات بلده ، وكان كثير من الرواة إذا حدث عن شيوخ من غير أهل بلده ، يكثر منه الوهم والغلط ؛ لذلك قال حماد بن زيد رحمه الله : ” بلديُّ الرجل ، أعرف بالرجل ” رواه الخطيب في ” الكفاية ” (ص175).

أفلا يكون في ذلك مقنع أو حجة للحث على تقليد علماء البلد ، الذين هم أعلم بظرفهم من غيرهم !!

ومن هذا القسم أيضا تلك المسائل التي استقر العمل بها في أحد البلدان بمذهب إمام معين ، فالأولى بالناس مراعاة ذلك المذهب المستقر ، ما أمكن ذلك ، لمنع أسباب الاضطراب والتنازع بين الناس .

فمثلا : ليس من الحكمة أن أفتي الناس بتقليد مذهب أبي حنيفة في بلاد المغرب التي يشتهر فيها المذهب المالكي الذي نشأ الناس عليه ، وتعلموا من فقهه وأحكامه ، فإذا ما قلد العامي هناك مذهبا آخر غير المشتهر ، فإنه غالبا ما يؤدي إلى إحداث النزاع بينه وبين مجتمعه ومحيطه ، خاصة في القضايا التي تتعلق بالحقوق والمعاملات ، كالزواج والطلاق والبيوع وغيرها .

ففي جميع ما سبق نقول : الأولى تقليد علماء البلد ، ولا ننكر وجود الاستثناء في بعض الأحيان.

النوع الثاني:

المسائل الفقهية المجردة من محيط مكاني أو زماني ، والنوازل العالمية التي لا تختص ببلد دون آخر ، وإنما هي محل بحث وسؤال من قبل الجميع ، ولا ترتبط بها أحداث تؤثر في الحكم فيها ، كما أنها ليس لها معطيات خاصة تقتضي جوابا خاصا في حكمها .

كمثل بيان وجوب الصلاة والصيام وأركان الإسلام ، وبيان أحكام الربا والبيوع المنهي عنها ، وتقرير أحكام التقنيات الطبية الحديثة مثلا ، أو التكييف الفقهي لما يسمى الصكوك الإسلامية ، ونحو ذلك من القضايا النظرية العامة ، دون التنزيلية الخاصة .

وهذا النوع من المسائل هو الأكثر ، خاصة في عصرنا عصر ” القرية الصغيرة ” كما يقولون إن العالم كله آل إليه .

ولهذا فلا حرج على المقلد فيها أن يأخذ بقول الأعلم ، والأوثق في نفسه ، ولو كان من غير أهل بلده ، ويجوز له تقليد من يثق في علمه وديانته ، ولو لم يكن يحمل ” جنسيته “، بل هذا هو الذي ينبغي في شأنه .

فمواقع الإفتاء عبر الإنترنت وبرامج الفتوى عبر الفضائيات كثيرة والحمد لله ، ولو قلنا بعدم جواز تقليد العالم إلا من أهل بلدك ، لحرم الناس هذا الخير العميم ، ولخالفنا منطق الإسلام الذي هو رسالة إلى العالم كافة ، والذي دعا أيضا إلى التوحد والتعاون على البر والتقوى .

فضلا عن أن الحجر في هذا النوع من المسائل يقيد مطلق قول الله سبحانه : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون ) النحل/43.

ولكن لا ننسى أن نستثني ما إذا كان تقليد غير علماء البلد سيؤدي إلى فتنة أو اضطراب وتشويش ، كما سبق التمثيل عليه في الفتوى بمذهب الحنفية مثلا في البلاد التي يشتهر بها المذهب المالكي ، ونحو ذلك من الأمثلة العملية التي يعلم العلماء مفسدتها على ساحة الفتوى الشرعية .

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال الآتي:

” بعض أهل العلم يقسم الناس من حيث التلقي إلى ثلاث مراتب : مرتبة الاجتهاد وهم العلماء ، ومرتبة الاتباع وهم طلبة العلم ، ومرتبة التقليد وهم العوام . فما رأي فضيلتكم في هذه القسمة ؟

فأجاب:

نعم . الناس يختلفون ، فمنهم من يصل إلى درجة الاجتهاد ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من يكون مجتهداً في مسألة من المسائل ، يحققها ويبحث فيها ، ويعرف الحق فيها دون غيره ، ومن الناس من لا يعرف شيئاً .

فالعامة مذهبهم مذهب علمائهم ، ولهذا لو قال لنا قائل : إنني أشرب الدخان ؛ لأن في البلاد الإسلامية الأخرى من يقول : إنه جائز ، وأنا لي حرية التقليد .

قلنا : لا يسوغ لك هذا ؛ لأن فرضك أنت هو التقليد ، وأحق من تقلد علماؤك ، ولو قلدت من كان خارج بلادك أدى ذلك إلى الفوضى في أمر ليس عليه دليل شرعي .

ولو قال : إنه سيحلق لحيته ؛ لأن من علماء الأمصار من قال : لا بأس بذلك ، نقول له : لا يمكن ، أنت فرضك التقليد ، لا تخالف علماءك .

ولو قال : أنا أريد أن أطوف على قبور الصالحين ؛ لأن من علماء الأمصار من قال : لا بأس بذلك ، أو قال : أريد أن أتوسل بهم إلى الله ، وما أشبه ذلك . قلنا : لا يمكن هذا ، فالعامي يجب عليه أن يقلد علماء بلده الذين يثق بهم .

وقد ذكر هذا شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله ، وقال : العامة لا يمكن أن يقلدوا علماء من خارج بلدهم ؛ لأن هذا يؤدي إلى الفوضى والنزاع .

ولو قال : أنا لا أتوضأ من لحم الإبل ؛ لأنه يوجد من علماء الأمصار من يقول : لا يجب الوضوء منه ، ولقلنا : لا يمكن ، يجب عليك أن تتوضأ لأن هذا مذهب علمائك وأنت مقلد لهم .

لكن العامي إذا استفتاك فأفته بما تراه أنه الراجح ، وإذا كان الراجح يخالف ما عليه الناس ؛ فأفته به سراً ، ما دامت المسألة اجتهادية وليس فيها نص ، وقل له : هذه فتوى بيني وبينك .

أما إذا كان الذي عليه الناس مخالفا للنص ؛ فأفته علناً ولا تُبالِ ، لكن لا تذكر له الخلاف ، فإن العوام يقولون : إذا أردت أن تحيِّر فخيِّر ، ولهذا دائماً نقول للطلبة : لا تبينوا الخلاف للعامة فتذبذبوهم ، ونقول : أيضاً لمن يعرف القراءات السبع : لا تقرأ بها أمام العامة ؛ لأنك لو قرأت بقراءة أخرى غير التي في المصحف عندهم ، شوش عليهم ذلك “. انتهى من ” لقاء الباب المفتوح ” (32/ 20، بترقيم الشاملة آليا).

ويقول الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله:

” إذا كان القول المعتمد في بلد من البلدان حمل الناس على القول الأحوط ، هذا إذا افترضنا أنهم على حد سواء ، مع أن المسألة في الحجاب ليست الأقوال مستوية ، النصوص صريحة في وجوب تغطية الوجه والكفين .

إذا فرضنا أن المسألة على حد سواء ، الأدلة متعادلة ، واعتُمد قول ، وأُفتي به في بلد من البلدان ، لا شك أن هذا القول هو المعتمد ، وأن الذي يثير غيره ، لا سيما إن كان القول الآخر تترتب عليه آثار عملية مؤثرة سلبية ، فإنه لا حظ له من النظر ، بل ينكر على من أفتى به ” انتهى من ” شرح الموطأ ” (35/ 8، بترقيم الشاملة آليا).

والخلاصة:

أنك في المسائل من النوع الأول تقلد فيها العلماء في البلد الذي تقيم فيه ، فهذا هو المقصود بعلماء بلدك ، يعني : علماء البلد الذي تقيم فيه ، ولو كنت أجنبيا عنه ؛ وليس في البلد الذي جئت منه ، أو بلد المولد الأصلي .

أما المسائل من النوع الثاني : فتحرص فيها على تقليد الأعلم والأتقى والأورع ، ولو كان في غير بلد إقامتك .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android