هل الواجب تقليد علماء البلد أم يجزئ تقليد أي عالم ؟
السؤال: 222908
كنتم قد ذكرتم في إحدى الفتاوى أنه على العامي أن يقلد علماء بلده ، ونقلتم قولا للشيخ محمد بن عثيمين يؤيد هذا القول ، وسؤالي هو : أنا مصري ، وأقيم غالب السنة في السعودية ، فهل بناء على هذا القول لا يجوز لي تقليد إلا العلماء المصريين ؟ وهل يجوز لي تقليد علماء غير مصريين مثل الشيخ محمد بن عثيمين ؟ مع العلم أن أقوال العلماء في البلد الواحد تختلف كثيرا .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
من الجيد أن يقرأ السائل في موقعنا شيئا من العلم والفتوى ، فيطلب تركيز البحث أكثر
في إحدى الجزئيات والفروع ، ففي ذلك مزيد دقة وتحرير ، ومزيد بيان وتوضيح للإخوة
القراء .
ثم اعلم أننا لم نقصد أبدًا في الفتوى رقم :
(215535) ،
(219722) إيجاب تقليد علماء البلد الذي تقيم فيه مطلقا ، وتحريم تقليد غيرهم من
العلماء ، فهذا لم يرد في كلامنا السابق ، ولم نقف على من يقول به من أهل العلم ،
ولا نراه متجها من حيث الأدلة . وإنما قصدنا إلى القول بأن المسائل الفقهية على
نوعين:
النوع الأول:
مسائل تكتسب صفة محلية ، ولها علاقة بقضايا داخلية ، ولا تخرج عن سياقها الاجتماعي
أو الاقتصادي أو السياسي الذي وردت فيه ، كمثل الحديث عن حكم المشاركة في المجالس
النيابية في بلد معين ، أو حكم الاقتتال الدائر في بلد آخر ، أو إعلان دخول رمضان
والعيد ، أو حكم الحجاب وغطاء الوجه ، أو حكم قيادة النساء للسيارات ؛ حيث ارتبطت
هذه المسألة بظروف مواجهة الغزو الثقافي والفكري …
ففي هذه المسائل ونحوها نقرر أن الذي ينبغي على السائل أن يكون سؤاله ، وتقليده
لعلماء البلد ، لسبب واضح شرعي ومعقول ، وهو أن علماء البلد أقدر على فهم الظروف
المحيطة بالمسألة ، وأعرف بسياقها ، وأدرى بعلاقاتها المحلية ، وأقدر على فهم جميع
المعطيات المرتبطة بها ، ولذلك غالبا ما يكون عالم البلد أدرى بها وأفقه .
وهذا أمر مجرب ومشاهد في جميع القطاعات ، فالسياسي أدرى بشؤون بلده ، بحكم اطلاعه
اليومي على مجريات الأمور فيها ، وكذلك التاجر في المدينة أعرف بمداخل التجارة
وخفاياها ، بخلاف الغر الطارئ عليها من الخارج ، وكذلك المفكرون والمثقفون يبحثون
عن المختصين في شؤون بلادهم .
ولهذا كانت الجامعات ومراكز الدراسات العالمية عبر التاريخ المعاصر حريصة كل الحرص
على تخصيص الباحثين الذين يركزون بحثهم في شؤون بعض البلاد ، كي تكتمل لديهم الصورة
عن ذلك البلد بشكل أوضح وأجلى ، فيتخذون القرارات الأنسب في التعامل مع القضايا
المتعلقة بذلك البلد محل البحث والدراسة .
ومن قبل ذلك كله كان المحدثون يقولون : الشيخ أعرف ببلديِّه ، وأعلم بمرويات بلده ،
وكان كثير من الرواة إذا حدث عن شيوخ من غير أهل بلده ، يكثر منه الوهم والغلط ؛
لذلك قال حماد بن زيد رحمه الله : ”
بلديُّ الرجل ، أعرف بالرجل ” رواه الخطيب في ” الكفاية ” (ص175).
أفلا يكون في ذلك مقنع أو حجة للحث على تقليد علماء البلد ، الذين هم أعلم بظرفهم
من غيرهم !!
ومن هذا القسم أيضا تلك المسائل التي استقر العمل بها في أحد البلدان بمذهب إمام
معين ، فالأولى بالناس مراعاة ذلك المذهب المستقر ، ما أمكن ذلك ، لمنع أسباب
الاضطراب والتنازع بين الناس .
فمثلا : ليس من الحكمة أن أفتي الناس بتقليد مذهب أبي حنيفة في بلاد المغرب التي
يشتهر فيها المذهب المالكي الذي نشأ الناس عليه ، وتعلموا من فقهه وأحكامه ، فإذا
ما قلد العامي هناك مذهبا آخر غير المشتهر ، فإنه غالبا ما يؤدي إلى إحداث النزاع
بينه وبين مجتمعه ومحيطه ، خاصة في القضايا التي تتعلق بالحقوق والمعاملات ،
كالزواج والطلاق والبيوع وغيرها .
ففي جميع ما سبق نقول : الأولى تقليد علماء البلد ، ولا ننكر وجود الاستثناء في بعض
الأحيان.
النوع الثاني:
المسائل الفقهية المجردة من محيط مكاني أو زماني ، والنوازل العالمية التي لا تختص
ببلد دون آخر ، وإنما هي محل بحث وسؤال من قبل الجميع ، ولا ترتبط بها أحداث تؤثر
في الحكم فيها ، كما أنها ليس لها معطيات خاصة تقتضي جوابا خاصا في حكمها .
كمثل بيان وجوب الصلاة والصيام وأركان الإسلام ، وبيان أحكام الربا والبيوع المنهي
عنها ، وتقرير أحكام التقنيات الطبية الحديثة مثلا ، أو التكييف الفقهي لما يسمى
الصكوك الإسلامية ، ونحو ذلك من القضايا النظرية العامة ، دون التنزيلية الخاصة .
وهذا النوع من المسائل هو الأكثر ، خاصة في عصرنا عصر ” القرية الصغيرة ” كما
يقولون إن العالم كله آل إليه .
ولهذا فلا حرج على المقلد فيها أن يأخذ بقول الأعلم ، والأوثق في نفسه ، ولو كان من
غير أهل بلده ، ويجوز له تقليد من يثق في علمه وديانته ، ولو لم يكن يحمل ” جنسيته
“، بل هذا هو الذي ينبغي في شأنه .
فمواقع الإفتاء عبر الإنترنت وبرامج الفتوى عبر الفضائيات كثيرة والحمد لله ، ولو
قلنا بعدم جواز تقليد العالم إلا من أهل بلدك ، لحرم الناس هذا الخير العميم ،
ولخالفنا منطق الإسلام الذي هو رسالة إلى العالم كافة ، والذي دعا أيضا إلى التوحد
والتعاون على البر والتقوى .
فضلا عن أن الحجر في هذا النوع من المسائل يقيد مطلق قول الله سبحانه : (
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون ) النحل/43.
ولكن لا ننسى أن نستثني ما إذا كان تقليد غير علماء البلد سيؤدي إلى فتنة أو اضطراب
وتشويش ، كما سبق التمثيل عليه في الفتوى بمذهب الحنفية مثلا في البلاد التي يشتهر
بها المذهب المالكي ، ونحو ذلك من الأمثلة العملية التي يعلم العلماء مفسدتها على
ساحة الفتوى الشرعية .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال الآتي:
” بعض أهل العلم يقسم الناس من حيث التلقي إلى ثلاث مراتب : مرتبة الاجتهاد وهم
العلماء ، ومرتبة الاتباع وهم طلبة العلم ، ومرتبة التقليد وهم العوام . فما رأي
فضيلتكم في هذه القسمة ؟
فأجاب:
نعم . الناس يختلفون ، فمنهم من يصل إلى درجة الاجتهاد ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من
يكون مجتهداً في مسألة من المسائل ، يحققها ويبحث فيها ، ويعرف الحق فيها دون غيره
، ومن الناس من لا يعرف شيئاً .
فالعامة مذهبهم مذهب علمائهم ، ولهذا لو قال لنا قائل : إنني أشرب الدخان ؛ لأن في
البلاد الإسلامية الأخرى من يقول : إنه جائز ، وأنا لي حرية التقليد .
قلنا : لا يسوغ لك هذا ؛ لأن فرضك أنت هو التقليد ، وأحق من تقلد علماؤك ، ولو قلدت
من كان خارج بلادك أدى ذلك إلى الفوضى في أمر ليس عليه دليل شرعي .
ولو قال : إنه سيحلق لحيته ؛ لأن من علماء الأمصار من قال : لا بأس بذلك ، نقول له
: لا يمكن ، أنت فرضك التقليد ، لا تخالف علماءك .
ولو قال : أنا أريد أن أطوف على قبور الصالحين ؛ لأن من علماء الأمصار من قال : لا
بأس بذلك ، أو قال : أريد أن أتوسل بهم إلى الله ، وما أشبه ذلك . قلنا : لا يمكن
هذا ، فالعامي يجب عليه أن يقلد علماء بلده الذين يثق بهم .
وقد ذكر هذا شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله ، وقال : العامة لا يمكن أن يقلدوا
علماء من خارج بلدهم ؛ لأن هذا يؤدي إلى الفوضى والنزاع .
ولو قال : أنا لا أتوضأ من لحم الإبل ؛ لأنه يوجد من علماء الأمصار من يقول : لا
يجب الوضوء منه ، ولقلنا : لا يمكن ، يجب عليك أن تتوضأ لأن هذا مذهب علمائك وأنت
مقلد لهم .
لكن العامي إذا استفتاك فأفته بما تراه أنه الراجح ، وإذا كان الراجح يخالف ما عليه
الناس ؛ فأفته به سراً ، ما دامت المسألة اجتهادية وليس فيها نص ، وقل له : هذه
فتوى بيني وبينك .
أما إذا كان الذي عليه الناس مخالفا للنص ؛ فأفته علناً ولا تُبالِ ، لكن لا تذكر
له الخلاف ، فإن العوام يقولون : إذا أردت أن تحيِّر فخيِّر ، ولهذا دائماً نقول
للطلبة : لا تبينوا الخلاف للعامة فتذبذبوهم ، ونقول : أيضاً لمن يعرف القراءات
السبع : لا تقرأ بها أمام العامة ؛ لأنك لو قرأت بقراءة أخرى غير التي في المصحف
عندهم ، شوش عليهم ذلك “. انتهى من ” لقاء الباب المفتوح ” (32/ 20، بترقيم الشاملة
آليا).
ويقول الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله:
” إذا كان القول المعتمد في بلد من البلدان حمل الناس على القول الأحوط ، هذا إذا
افترضنا أنهم على حد سواء ، مع أن المسألة في الحجاب ليست الأقوال مستوية ، النصوص
صريحة في وجوب تغطية الوجه والكفين .
إذا فرضنا أن المسألة على حد سواء ، الأدلة متعادلة ، واعتُمد قول ، وأُفتي به في
بلد من البلدان ، لا شك أن هذا القول هو المعتمد ، وأن الذي يثير غيره ، لا سيما إن
كان القول الآخر تترتب عليه آثار عملية مؤثرة سلبية ، فإنه لا حظ له من النظر ، بل
ينكر على من أفتى به ” انتهى من ” شرح الموطأ ” (35/ 8، بترقيم الشاملة آليا).
والخلاصة:
أنك في المسائل من النوع الأول تقلد فيها العلماء في البلد الذي تقيم فيه ، فهذا هو
المقصود بعلماء بلدك ، يعني : علماء البلد الذي تقيم فيه ، ولو كنت أجنبيا عنه ؛
وليس في البلد الذي جئت منه ، أو بلد المولد الأصلي .
أما المسائل من النوع الثاني : فتحرص فيها على تقليد الأعلم والأتقى والأورع ، ولو
كان في غير بلد إقامتك .
والله أعلم .
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
![answer](/_next/image?url=%2F_next%2Fstatic%2Fmedia%2Fanswer.91a384f1.png&w=64&q=75)
موضوعات ذات صلة