0 / 0

التوفيق بين طلب الستر في قصة ماعز وبين عدم التهاون في إقامة الحدود في قصة المخزومية

السؤال: 226758

في السيرة النبوية بدا لي أن فيها تعارض بين قصتين :
الحادثة الاولى : قصة المرأة المخزومية التي سرقت والرسول أراد أن يقيم عليها الحد ، فحرك أهلها أسامة بن زيد ليشفع لها عند رسول الله ، فغضب الرسول من أسامة وقال : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها …
وهذا من حرصه صلى الله عليه وسلم على إقامة الحدود ، وعدم التهاون فيها .
الحادثة الثانية : قصة الصحابي ماعز الذي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطهره وأصر عليه ، حتى أقام النبي عليه حد الرجم .
ملاحظة مهمة وهي : ان علمائنا ومشايخنا يصورون لنا في الحادثة الثانية : أن الرسول كان يريد من “ماعز” أن يرجع وأن يتوب بينه وبين ربه ، ولا يقام عليه الحد الشرعي ، “ونفس الامر أيضا مع المرأة الغامدية التي زنت ، وجاءت للنبي وهي حُبلى” .
والسؤال المهم هنا : كيف نوفق بين الحادثتين الأولى : عدم التهاون في تنفيذ الحكم الشرعي في مخالفة السرقة ، وبين ما أوضحه لنا العلماء والمشايخ من أن النبي لم يرد أن يُقام حد الزنا على ماعز أو المرأة الغامدية ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

لا يوجد تعارض بين الحادثتين ، فكل حادثة منهما لها أحكامها التي لا تنطبق على الحادثة الأخرى .
أولا :
حادثة ماعز رضي الله عنه ثبت فيها الحد بإقراره ، ولم يثبت بالشهود .
روى البخاري ( 6825 ) ومسلم ( 1691 ) عن أَبَي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : ( أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ ، فَنَادَاهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي زَنَيْتُ – يُرِيدُ نَفْسَهُ – فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي زَنَيْتُ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَجَاءَ لِشِقِّ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ، دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَبِكَ جُنُونٌ ؟ قَالَ : لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : أَحْصَنْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ: اذْهَبُوا فَارْجُمُوهُ ) رواه البخاري ( 6825 ) ومسلم ( 1691 ) .
وفي لفظ للبخاري ( 6824 ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : ( لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ ، أَوْ غَمَزْتَ ، أَوْ نَظَرْتَ ؟ قَالَ : لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ…) .
والحد الذي ثبت بالإقرار : فإنه لا يجب على الحاكم أن يبادر إليه ؛ بل يستحب له أن يُعَرِّض للمقر ليرجع عن إقراره ، فإن أصر المقر على إقراره ، أقام الإمام عليه الحد .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن قصة ماعز :
” فتضمنت هذه الأقضية رجم الثيب …
وأن الإمام يستحب له أن يعرض للمقر بأن لا يقر ” انتهى من ” زاد المعاد ” ( 5 / 30 ) .
قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله :
“وقد ذكر بعض العلماء أنه يستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالإقرار التعريض له بالرجوع ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعرض عن ماعز حين أقر عنده ، ثم جاء من الناحية الأخرى فأعرض عنه ، حتى تم إقراره أربعاً . ثم قال : (لعلك لمست) .
وفي “المغني” لابن قدامة (12/466) : قال الإمام أحمد: لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره ، وهذا قول عامة الفقهاء” انتهى من “مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم” (12/466) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
“إذَا جَاءَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَاعْتَرَفَ وَجَاءَ تَائِبًا فَهَذَا لَا يَجِبُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الإمام أَحْمَد ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا الْقَاضِي بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ ، وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ: (أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ …إلخ الحديث) يَدْخُلُ فِي هَذَا ، لِأَنَّهُ جَاءَ تَائِبًا .
وَإِنْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ مَاعِزٌ والغامدية ، وَاخْتَارَ إقَامَةَ الْحَدِّ : أُقِيمَ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا. كَمَا فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ: (فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ؟) ، والغامدية : رَدَّهَا مَرَّةً ، بَعْدَ مَرَّةٍ. فَالْإِمَامُ وَالنَّاسُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ وَلَكِنْ هُوَ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أُقِيمَ عَلَيْهِ ، كَاَلَّذِي يُذْنِبُ سِرًّا ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ حَدًّا: لَكِنْ إذَا اخْتَارَ هُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ وَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أُقِيمَ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (16/31-32) .

ثانيا :
أما حادثة المخزومية فقد رواها البخاري ( 3475 ) ومسلم ( 1688 ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ( أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ) .

فالحد في هذه الحادثة لم يثبت باعترافها ، بل ورد في بعض روايات الحديث أنها أنكرت أن تكون سرقت ، وأن المال المسروق وُجد في بيتها ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.
انظر : “فتح الباري” (12/92) .
فهناك فرق بين من ثبت الحد عليه باعترافه ، ومن يثبت الحد عليه بالبينة .
فالثاني هو الذي يجب إقامة الحد عليه .

ثالثا :
من الأصول المهمة ، وما يجب معرفته والعناية به هنا : أن الحدود يشرع تعافيها ، والعفو عنها ، فيما بين الناس ، ويشرع لمن شهد بعض ذلك أن يستر على من ألم به ، ولا يفضحه ، ولا يجب عليه أن يشهد به عند ولي الأمر ؛ لكن من شهد الشهود بذلك عند ولي الأمر ، وقامت البينة به عنده : حرم الشفاعة فيه ، ووجب على ولي الأمر أن يقيم حد الشرع على صاحبه .
روى أبو داود (4376) وغيره ، عن عبدِ الله بنِ عمرو بنِ العاص، أن رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلم – قال: “تعافَوُا الحُدُودَ فيما بينكم، فما بلغني مِن حدٍّ، فقد وَجَبَ” . وصححه الألباني .

قال ابن قدامة رحمه الله :
“وَلَا بَأْسَ بِالشَّفَاعَةِ فِي السَّارِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : (تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ وَجَب) .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْإِمَامَ ، لَمْ تَجُزْ الشَّفَاعَةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إسْقَاطُ حَقٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ شَفَعَ أُسَامَةُ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، وَقَالَ : ( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ) ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ” انتهى .المغني (12/467) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android