تنزيل
0 / 0

لماذا استعمل الصحابة الحرق بالنار كعقوبة على بعض الجرائم ؟

السؤال: 227776

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لا يعذب بالنار إلا الله ؟! وبالتالي أليس الحرق محرم في الشرع ؟ لقد ذكرتم في الفتوى رقم : (38622) أن علياً وأبا بكر وخالد بن الولد حرقوا مرتكبي جريمة اللواط ، أفلا يأثمون لفعل ذلك ؟ وحتى على فرض أنه يُقتل قصاصاً، أليس القصاص بالحرق حرام ؟

ملخص الجواب

فالحاصل : المقطوع به أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يتعمدوا مخالفة النهي عن العقوبة بالتحريق ، وما روي عن بعضهم إما أنه غير صحيح ، أو أنه صحيح لكنهم معذورون فيه وفعلوه عن اجتهاد وهم من أهله . والمجتهد إذا بذل كل وسعه للقضاء والفتوى بالحق وأخطأ فإنه مأجور وليس بآثم . عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (‏ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ) رواه البخاري ( 7352 ) ، ومسلم ( 1716 ) . وينظر للفائدة : “شرح الكوكب المنير” (4/491-492) . والله أعلم .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

العقوبة بالتحريق بالنار قد ثبت النهي عنها .
عَنْ عِكْرِمَةَ : " أَنَّ عَلِيًّا رضى الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا ، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ‏" رواه البخاري ( 3017 ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : " بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ فَقَالَ: ( إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَدْنَا الخُرُوجَ : ( إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا ، وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا ) " رواه البخاري ( 3016 ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم " انتهى من " فتح الباري " ( 6 / 150 ) .
وهذا النهي العام عن العقوبة بالتحريق بالنار استثنى منه جمهور أهل العلم التحريق بالنار على سبيل القصاص ، والمعاقبة بالمثل ؛ فمن حرَّق غيره ، يجوز ـ على هذا القول ـ أن يعاقب بالحرق قصاصا .
واستدلوا بقوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )البقرة /194.
وقوله تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ )النحل /126 .
والقاعدة الأصولية تقول : إن إعْمال النصين الصحيحين ، غير المنسوخين : أولى من إهمال أحدهما .
وراجع للفائدة الفتوى رقم : ( 147416 ) .
فلهذا يرى جمهور الفقهاء جواز التحريق بالنار على وجه القصاص .
قال ابن الملقن رحمه الله تعالى :
" وقالت طائفة : من حرق يحرق ، وبه قال مالك وأهل المدينة والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق " انتهى من " التوضيح لشرح الجامع الصحيح " ( 18 / 61 ) .
ثانيا :
أما ما ذكر في الفتوى رقم : (38622) من أن علياً وأبا بكر وخالد بن الولد حرقوا مرتكبي جريمة اللواط ، فيقال في الجواب عنه :
الصحابة رضوان الله عليهم ، خاصة كبارهم كالخلفاء الراشدين الأربعة وغيرهم قد أثنى الله عليهم في القرآن وثبتت فضائلهم بالسنة ، وكل ذلك بسبب شدة امتثالهم وطاعتهم لأوامر الشرع ، وثباتهم عليها واجتهادهم في الدعوة إليها حتى لقوا الله تعالى وهم كذلك .
ومن كانت هذه حالهم ، فإننا إذا وجدنا لهم قضاء أو فتوى ظاهرها يعارض نصا شرعيا ، ففي هذه الحالة يجب اتباع الآتي :
الخطوة الأولى : علينا أن نتأكد من صحة ما نسب إليهم . فلا يجوز أن ننسب لشخص شيئا لم نتأكد من صحة ثبوته .
وحوادث القتل بالنار المنسوبة للصحابة رضوان الله عليهم ليست كلها صحيحة ، وما جاء في الفتوى رقم : ( 38622 ) التي أشرت إليها ، فهذه الفتوى كانت بصدد بيان أقوال أهل العلم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط ، فسيقت جميع الأقوال المذكورة في كيفية العقوبة على هذه الفاحشة .
وقد ذكر التحريق اتباعا لمن قال بثبوته عن الصحابة ، كابن القيم رحمه الله تعالى حيث قطع بثبوت هذه الحادثة كما سيق قوله في الفتوى .
لكن يوجد من خالف ابن القيم وضعف هذه القصة ؛ ومنهم البيهقي رحمه الله تعالى حيث قال في "السنن الكبرى" ( 17 / 219 ) : " هذا مرسل " انتهى .
ومن المعروف : أن المرسل أحد أنواع الحديث الضعيف.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" أما الإحراق : فروى ابن أبي الدنيا من طريق البيهقي ، ومن طريق ابن المنكدر : أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ، ينكح كما تنكح المرأة ، فجمع أبو بكر الصحابة ، فسألهم ، فكان أشدهم في ذلك قولا علي ، فقال : نرى أن نحرقه بالنار ، فاجتمع رأي الصحابة على ذلك .
قلت : وهو ضعيف جدا ، ولو صح لكان قاطعا للحجة ".
انتهى من " الدراية في تخريج أحاديث الهداية " ( 2 / 103 ) .
وعلق الشيخ بكر أبو زيد على هذه الرواية بقوله :
" وحكم الأئمة بأنه حديث مرسل كما صرح به البيهقي والشوكاني " .
انتهى من " الحدود والتعزيرات عند ابن القيم " ( ص 175 ) .
فالحاصل أن هذه الحادثة غير مقطوع بصحتها وثبوتها .
الخطوة الثانية : ففي حالة صحة نسبة فتوى أو قضاء ما ، كقصة علي رضي الله عنه .
عَنْ عِكْرِمَةَ : " أَنَّ عَلِيًّا رضى الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا ، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ )، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ‏) " رواه البخاري ( 3017 ) .
ففي مثل هذه الحادثة لا بد من وجود سبب جعل عليّا رضي الله عنه يقضي بالتحريق ، وهذه الأسباب المحتملة :
السبب الأول : لعله لم يصله حديث النهي ، فالصحابة رضوان الله عليهم هم كباقي البشر ، يفوت الواحد منهم من العلم ، بحسب حاله ، كما فات أبا بكر وعمر ، مسائل من العلم ، علمها غيرهم ، وهما أفضل من علي رضي الله عنهم جميعا . وكما فاتت غيرهم أيضا من مسائل العلم ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ما هو معلوم .
قال الحازمي رحمه الله تعالى :
" عن عكرمة ( أن عليا حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام ، فبلغ ابن عباس فقال : لم أكن لأحرقهم بالنار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله ، وكنت أقتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه .
قال : فبلغ ذلك عليا ، فقال : ويح ابن عباس ).
هذا حديث ثابت صحيح .
قالوا : واستعجاب علي من كلام ابن عباس : يدل على أنه لم يكن قد بلغه النسخ ، وحيث بلغه قال به ، ولولا ذلك لأنكر على ابن عباس قوله " .
انتهى من " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار " ( ص 194 ) .
السبب الثاني : لعله نسي حديث النهي ولم يتذكره ، والناسي معذور غير آثم .
ولهذا نظائر في سير الصحابة أن بعضهم قد ينسى حديثا فيذكِّره الآخر .
قال محمد بن علي بن آدم الإثيوبي :
" ويحتمل أن يكون قالها – أي قول علي ( ويح ابن عباس ) – رضًا بما قال ، وأنه حفظ ما نسيه " انتهى من " ذخيرة العقبى في شرح المجتبى " ( 31 / 385 ) .
السبب الثالث : لعله كان يتأول أن النهي لمجرد الكراهة وليس للتحريم ، كما اختار ذلك بعض أهل العلم .
قال الزرقاني رحمه الله تعالى :
" فقال – علي رضي الله عنه – : ( ويح أم ابن عباس ) . وهو محتمل أنه لم يرض اعتراضه عليه ، ورأى أن النهي للتنزيه ؛ لأن عليا كان يرى جواز التحريق ، وكذا خالد بن الوليد وغيرهما تشديدا على الكفار ، ومبالغة في النكاية والنكال " .
انتهى من " شرح الموطأ " ( 3 / 193 – 194 ) .
وعلى مثل هذه الأسباب يحمل حرق أبي بكر رضي الله عنه لأصحاب فاحشة اللواط ، إن ثبتت صحتها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة – المقبولين عند الأمة قبولا عاما- يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته ، دقيق ولا جليل .
فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن إذا وجد لواحد منهم قول ، قد جاء حديث صحيح بخلافه ، فلا بد له من عذر في تركه . وجميع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله .
والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول .
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة … " انتهى من " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ( ص 8 – 9 ) .

فالحاصل : المقطوع به أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يتعمدوا مخالفة النهي عن العقوبة بالتحريق ، وما روي عن بعضهم إما أنه غير صحيح ، أو أنه صحيح لكنهم معذورون فيه وفعلوه عن اجتهاد وهم من أهله .

والمجتهد إذا بذل كل وسعه للقضاء والفتوى بالحق وأخطأ فإنه مأجور وليس بآثم .

عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (‏ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ) رواه البخاري ( 7352 ) ، ومسلم ( 1716 ) . وينظر للفائدة : "شرح الكوكب المنير" (4/491-492) . 
والله أعلم .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android