0 / 0

هل ثبت أن الإمام الشافعي رحمه الله قال : إن الله تعالى لا مكان له ؟

السؤال: 228372

هناك قول يقول : قال الشافعي رحمه الله: ” اعلموا أنَّ البارىء عز وجل لا مكان له ” رواه القشيري رحمه الله .
وقال الأشعري رحمه الله: ” إنَّ الله تعالى لا مكان له ” رواه البيهقي.
وقال الإمام أبو منصور البغدادي رحمه الله: ” وأجمعوا أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان ” أرجو الرد على هذا الكلام وتوضيحه ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
أهل السنة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل .
فمن الصفات الواردة لله تعالى في القرآن والسنة النبوية : علو الله تعالى على خلقه ، فالله تعالى بذاته عالٍ فوق جميع مخلوقاته ، وقد ورد في القرآن الكريم في سبع آيات إثبات استواء الله تعالى على العرش ، ومعلوم أن العرش هو أعلى المخلوقات وسقفها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ) رواه البخاري (7423) .
والأدلة على علو الله تعالى على خلقه تتجاوز ألف دليل ، كما ذكر ذلك ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية (1/312) ، (2/191) .
وقد سبق بيان شيء من هذه الأدلة في جواب السؤال رقم : (992) ، (11035) .

ثانيا :
لفظ “المكان” لم يرد في القرآن الكريم إثباته لله ولا نفيه عنه ، وهو من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقا وباطلا ، فينبغي الاستفصال ممن أثبت هذا اللفظ لله تعالى أو نفاه ، فإن قصد حقا قُبل منه ، وكان التعبير بما ورد في القرآن والسنة من إثبات علو الله واستوائه على العرش : أولى ، وإن قصد باطلا كان مردودا .

فإن قصد بالمكان : أن الله جل جلاله قد حل في شيء ، أو أن شيئا من مخلوقاته يحيط به ، أو يحصره ، أو يحويه ؛ فلا شك أن هذه كلها معان باطلة ، ولا شك أيضا أن نفي هذا “المعنى” عن الله : حق ؛ ما في إطلاق النفي على اللفظ المحتمل من المأخذ الذي أشرنا إليه .

وإن قصد بالمكان : العلو فوق جميع الخلق ، وأن الله عالٍ بذاته فوق خلقه ، وأنه بائن عنهم ، ليس مختلطا بهم ، فهذا المعنى إثباته لله تعالى حق ، والتعبير عنه بالعلو والفوقية أولى ، ونفيه عن الله تعالى باطل ، لأنه نفي لعلو الله الثابت بنصوص القرآن والسنة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” … وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان ، ويعنون بها تارة أمراً معدوماً، وتارة أمراً موجوداً، ولهذا كان أهل الإثبات ، من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف ، فمنهم من يطلق لفظ (الجهة) ، ومنهم من لا يطلقه.
وكذلك لفظ (المكان) منهم من يطلقه ومنهم من يمنع منه.
وأما لفظ (التحيز) فمنهم من ينفيه، وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه، لأن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حقاً وباطلاً.
وإذا كان كذلك فيقال: قول القائل (إن الله في جهة أو حيز أو مكان) :
إن أراد به شيئاً موجوداً غير الله، فذلك من جملة مخلوقاته ومصنوعاته، فإذا قالوا: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، امتنع أن يكون محصوراً أو محاطاً بشيء موجود غيره، سواء سُمَّي مكاناً أو جهة أو حيزاً أو غير ذلك… فإن البائن عن المخلوقات ، العالي عليها : يمتنع أن يكون في جوف شيء منها…..
وإن أراد بمسمى الجهة والحيز والمكان : أمراً معدوماً، فالمعدوم ليس شيئاً، فإذا سَمَّى المُسَمِّي ما فوق المخلوقات كلها حيزاً وجهة ومكاناً، كان المعنى: أن الله وحده هناك، ليس هناك غيره من الموجودات: لا جهة ولا حيز ولا مكان، بل هو فوق كل موجود من الأحياز والجهات والأمكنة وغيرها، سبحانه وتعالى ” انتهى باختصار من “درء تعارض العقل والنقل” (7/ 15-17).
وقال أيضا :
” السلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا ” إنه فوق العرش ، وإنه في السماء فوق كل شيء ” لا يقولون إن هناك شيئا يحويه ، أو يحصره ، أو يكون محلا له ، أو ظرفا ووعاء ، سبحانه وتعالى عن ذلك ، بل هو فوق كل شيء ، وهو مستغن عن كل شيء ، وكل شيء مفتقر إليه ، وهو عالٍ على كل شيء ، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته ، وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق ” انتهى من”مجموع الفتاوى ” (16/100-101) .

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (183941) ، ورقم : (195996) .

ثالثا :
أما ما ذكرته عن الإمام الشافعي رحمه الله فقد رجعنا إلى كتاب “الرسالة” للقشيري ، وإلى تفسيره : “لطائف الإشارات” : فلم نجده نقل شيئا من هذا عن الإمام الشافعي ، وإنما نقل القشيري في “الرسالة” (ص 18-29) نحوا من هذا الكلام عن بعض الصوفية ، ولم ينقله عن أحد من أئمة العلم ، لا عن الشافعي رحمه الله ، ولا عن غيره من الأئمة المتبوعين في العلم والدين .

ثم إن هذه النقول التي نقلها القشيري نقلها بلا إسناد ، وتحتاج إلى البحث والنظر في أسانيدها حتى نتأكد من صحة نسبتها إلى من نسبت إليه ، حتى لا ينسب إلى أحد ما لم يقل .

والإمام الشافعي رحمه الله أجل من أن يقول مثل هذا الكلام ، فهو أحد أئمة أهل السنة والجماعة الكبار ، وأحد مجددي هذه الأمة ، والثابت عنه قطعا أنه يثبت لله تعالى ما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء وصفات على منهج أهل السنة والجماعة ، ومن ذلك : صفة العلو .
قال رحمه الله : خلافة أبي بكر حق ؛ قضاها الله في سمائه ، وجمع عليها قلوب أصحاب نبيه” .
نقله عنه الحافظ عبد الغني المقدسي في عقيدته (27) ، وابن قدامة في إثبات صفة العلو (124-125) ، وابن تيمية في ” الفتاوى ” (5/53-54، 139) ، وابن القيم في ” الجيوش “(59) وصححها عنه .
وفي جملة الاعتقاد المنسوب إليه :
” القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت عليها الذين رأيتهم ، مثل سفيان ومالك وغيرهما : الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الله على عرشه في سمائه ، يقرب من خلقه كيف شاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء ، وذكر سائر الاعتقاد” انتهى .
رواه عنه الهكاري في “عقيدته” (18) ، ومن طريقه ابن قدامة في ” العلو ” : فـ (108) ، والذهبي كما في “مختصر العلو” بتحقيق الألباني (ص176) .

وأما أبو الحسن الأشعري رحمه الله فقد سبق في الفتوى رقم : (34531) أنه قد مر بعدة مراحل في حياته ، وانتهى إلى مذهب أهل السنة والجماعة ومات على ذلك ، وقد صرح بذلك في أواخر كتبه التي ألفها كـ “الإبانة” ، و ” مقالات الإسلاميين ” .
قال رحمه الله في كتابه “المقالات” (1/ 167-168):
” باب اختلافهم في البارئ هل هو في مكان دون مكان ؟ أم لا في مكان ؟ أم في كل مكان ؟ وهل تحمله الحملة أم يحمله العرش؟ وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة؟
… وذكر الأقوال المخالفة للسنة في هذا ، ثم قال :
“وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ، ولا يشبه الأشياء ، وأنه على العرش كما قال عز وجل : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ولا نقدم بين يدي الله في القول ، بل نقول : استوى بلا كيف … ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” انتهى .
وقال ـ أيضا ـ في كتابه “الإبانة” (18) :
” وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا …
وأن الله تعالى استوى على العرش ، كما قال : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) طه/5″ انتهى.
ثم إنه عقد بابا خاصا في : “ذكر الاستواء على العرش” ، قال فيه :
” إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟
قيل له : نقول :
إن الله عز وجل مستو على عرشه ، كما قال : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) طه/5 ، وقد قال عز وجل : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) فاطر/10 ، وقال عز وجل : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) النساء/158…
وقال عز وجل : ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ) الملك/16 ، فالسماوات فوقها العرش ؛ فلما كان العرش فوق السماوات ، قال : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ؛ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ؛ فالعرش أعلى السماوات ..” .
انتهى من “الإبانة عن أصول الديانة” لأبي الحسن الأشعري (55) ط محب الدين الخطيب .
ثم ساق أدلة أخرى على ذلك ، ورد على من تأوله من المعتزلة ونحوهم .
وهو كلام غني عن البيان والشرح .
وليس في شيء من كتبه التي بين أيدينا : ما يخالف ذلك أصلا !!

وأما قول أبي منصور البغدادي في “الفرق بين الفرق” (ص 321): ” وأجمعوا على أنه لَا يحويه مَكَان ، وَلَا يجرى عَلَيْهِ زمَان ” انتهى .
فالجواب على هذا :
1- أن البغدادي أشعري المذهب ، وهو يعرض عقيدة الأشاعرة على أنها عقيدة أهل السنة . قال الشيخ محمد بن خليفة التميمي :
” كان أشعري المذهب ويدل على ذلك عدة أمور منها:
• اتفاق المترجمين له على نسبته إلى هذا المذهب.
• عرضه لعقيدة الأشعرية في كتابه الفرق بين الفرق على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية ، ولم يصنف الأشعرية على أنها إحدى الطوائف بل جعلهم هم أهل الحق.
• كتابه “أصول الدين” أكبر دليل على انتسابه إلى هذا المذهب ، فقد ألفه على طريقة المتكلمين في تقسيمه لأبوابه ، وتقريره لمسائل الاعتقاد على منهج الأشاعرة في مختلف الأبواب ” انتهى ، “مقدمات في علم مقالات الفرق” (ص 37) .
2- أن هذه الكلمة مجملة – كما سبق- فإنها تحتمل حقا وباطلا ، وإن كان الظاهر أنه يريد بها نفي صفة العلو كما هو مذهب الأشاعرة . وانظر للفائدة جواب السؤال رقم : (212475) .
3- وأما الإجماع الذي نقله : فهو باطل ، وفي مثل تلك الدعاوى ، قال الإمام أحمد رحمه الله : “من ادعى الإجماع فقد كذب ، هذه دعوى بشر الريس والأصم ” .
انتهى من “مجموع الفتاوى” (19/271) ، ” العدة في أصول الفقه ” (4/1059) ، والمريسي والأصم من رؤوس المعتزلة وأئمتهم .
قال ابن رجب رحمه الله في آخر “شرح الترمذي” : “وأما ما روي من قول الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فقد كذب . فهو إنما قاله إنكاراً على فقهاء المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه ، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين” انتهى من “التحبير شرح التحرير ” (4/1528) .
ولعل البغدادي يقصد إجماع أهل مذهبه (الأشاعرة) .

والإجماع الصحيح قطعا هو إجماع السلف على إثبات صفات الله تعالى كما أثبتها لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكيف ولا تمثيل .
وانظر كتاب ” العلو للذهبي” ، وكتاب “العرش” له أيضا ، وأيضا : “اجتماع الجيوش الإسلامية” لابن القيم ، و” الفتوى الحموية” لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لتقف على هذا الإجماع الصحيح ، وتقرأ مئات من الأقوال للأئمة والعلماء جيلا بعد جيل في السير على مذهب أهل السنة والجماعة .
والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android