الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
روى البخاري (759) ، ومسلم (451) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ : ” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ” .
فهذا الحديث يدل على الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأخريين .
ولكن يعارضه ما رواه مسلم (452) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : ” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً أَوْ قَالَ نِصْفَ ذَلِكَ – وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ ” .
فاختلف العلماء في العمل بهذين الحديثين ، وأكثرهم قَدَّم العمل بحديث أبي قتادة [وهو مذهب الأئمة الأربعة ، إلا قولا للشافعي وأحمد) ، وذلك لما يلي :
1- أنه أصح من حديث أبي سعيد ، فقد رواه البخاري ومسلم ، أما حديث أبي سعيد فقد انفرد به مسلم .
2- أن حديث أبي قتادة وافق المنقول عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم كعمر وعلي وابن مسعود وجابر وعائشة ، بل نقل ابن سيرين رحمه الله ما يفهم منه الإجماع على ذلك .
فقد كَتَبَ عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه إلَى شُرَيْحٍ : ” أَنْ اقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ ” انتهى من ” الأوسط ” (3/268) .
وعن علي رضي الله عنه أنه : ” كان يأمر أو يحث أن يقرأ خلف الأمام في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الركعتين الأخريين بفاتحه الكتاب” رواه الدارقطني وقال: وهذا إسناد صحيح ، وصححه الألباني في “إوراء الغليل” (2/283) .
وورى ابن ماجه ( 843 ) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : ” كُنَّا نَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ” صححه الألباني في “إوراء الغليل” (2/288) .
وقال ابن سيرين : لا أعلمهم يختلفون في أنه يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب ” انظر : “المغني” (2/281) .
وهذه طائفة من أقوال العلماء في ذلك :
قال الصنعاني في “سبل السلام” (2/118) عن الجمع بين الحديثين :
“وَلَعَلَّهُ [حديث أبي قتادة] أَرْجَحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ ، لِأَنَّهُ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ ، وَمِنْ حَيْثُ الدِّرَايَةُ ، لِأَنَّهُ إخْبَارٌ مَجْزُومٌ بِهِ ، وَخَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ ، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حَزْرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَظَنُّنٍ” انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه “الصلاة” (ص 185) :
“وقد احتج بحديث أبي سعيد من استحب قراءة السورة بعد الفاتحة في الأخريين ، وهو ظاهر الدلالة لو لم يجئ حديث أبي قتادة المتفق على صحته : أنه ( كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب) ؛ فذكر السورتين في الركعتين الأوليين واقتصاره على الفاتحة في الأخريين : يدل على اختصاص كل ركعتين بما ذكر من قراءتهما. وحديث أبي سعيد يحتمل لما قال أبو قتادة ، ولما قال أبو سعيد ، وحديث أبي سعيد ليس صريحا في قراءة السورة في الأخريين ، فإنما هو حزر وتخمين” انتهى .
وسيأتي في كلام ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد” أنه يمكن الجمع بين الحديثين .
وإذا كان حديث أبي قتادة أرجح ، فقياس القراءة في الأخيرة من المغرب ، والأخريين من العشاء ، عليه : أولى وأظهر ، وهو ما ذهب إليه أكثر العلماء ، ولم يقيسوا الأمر في المغرب والعشاء على حديث أبي سعيد .
وكذلك فعل ابن قدامة رحمه الله في “المغني” (2/281) حيث قال :
” مَسْأَلَةٌ : قَالَ الخرقي رحمه الله ( وَلَا يَزِيدُ عَلَى قِرَاءَةِ أُمِّ الْكِتَابِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَالرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْمَغْرِب)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ : أَنَّهُ لَا تُسَنُّ زِيَادَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى أُمِّ الْكِتَابِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ غَيْرِ الْأُولَيَيْنِ … ثم استدل بحديث أبي قتادة ” انتهى .
ثانيا :
وقد ذهب الإمام الشافعي رحمه الله في أحد قوليه إلى تقديم حديث أبي سعيد ، وقاس عليه سائر الصلوات ، إلا أن الصحيح عند أكثر أصحابه القول الآخر الموافق لحديث أبي قتادة ، ولجماهير العلماء ، كما ذكر ذلك النووي رحمه الله في “المجموع” (3/351) .
ثالثا :
ذهب بعض العلماء إلى الجمع بين حديثي أبي قتادة وأبي سعيد ، بأن حملوا حديث أبي قتادة على الغالب والأكثر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي سعيد على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يزيد على الفاتحة في الركعتين الأخريين أحيانا .
قال الصنعاني رحمه الله في “سبل السلام” (2/118) :
” وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْنَعُ هَذَا تَارَةً ، فَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ مَعَهَا ، وَيَقْتَصِرُ فِيهِمَا أَحْيَانًا ، فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا فِيهِمَا سُنَّةً تُفْعَلُ أَحْيَانًا ، وَتُتْرَكُ أَحْيَانًا” انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد” (1/239) :
“وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا أَكْثَرُ فِعْلِهِ [يعني العمل بما في حديث أبي قتادة] ، وَرُبَّمَا قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِشَيْءٍ فَوْقَ الْفَاتِحَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أبي سعيد ” انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” الذي يظهر أن إمكان الجَمْعِ حاصلٌ بين الحديثين ، فيُقال: إن الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم أحياناً يفعل ما يدلُّ عليه حديث أبي سعيد ، وأحياناً يفعل ما يدلُّ عليه حديث أبي قتادة ” .
انتهى من “الشرح الممتع” (3/ 215).
وينظر تقرير الشيخ ابن باز رحمه الله ، في النص المنقول عنه ، في السؤال رقم :(131010).
رابعا :
أما جزم أبي قتادة رضي الله عنه بذلك مع أن الصلاة كانت سرية ، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك ، ويحتمل أنه قامت عنده قرائن على هذا الحكم ، وقويت عنده فأخبر بهذا على سبيل الجزم .
قال ابن دقيق العيد تعليقا على حديث أبي قتادة :
” فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِي الْإخْبَارِ ، دُونَ التَّوَقُّفِ عَلَى الْيَقِينِ .
لِأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى الْعِلْمِ بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي السِّرِّيَّةِ : لَا يَكُونُ إلَّا بِسَمَاعِ كُلِّهَا .
وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْيَقِينُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْجَهْرِيَّةِ .
وَكَأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ سَمَاعِ بَعْضِهَا ، مَعَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى قِرَاءَةِ بَاقِيهَا .
ويحتمل أن يَكُونَ أَخْذَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهو بعيدٌ جداًّ” .
انتهى من ” إحكام الأحكام ” (ص 275) ، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في ” فتح الباري” (2/286) .
خامسا :
أما دلالة حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ في الركعتين الأخريين شيئا بعد الفاتحة ، فليس كذلك ، لأن الظاهر أنه أراد بقراءة خمس عشرة آية في الأخريين من الظهر ، ونصف ذلك في الأخريين من العصر أي : بعد قراءة الفاتحة .
ولذلك قال الطحاوي رحمه الله : “ففي ذلك ما قد دل على أنه قد كان يقرأ في الركعتين الأخريين من الظهر ، وفي الركعتين الأخريين من العصر : زيادة على فاتحة الكتاب ، التي هي سبع آيات لا غير” انتهى من “بيان مشكل الآثار” (11/212) .
والله تعالى أعلم .