وُلد ابننا البكر قبل أوانه ، وقد عانى من مشاكل صحية متعددة ومكث في المستشفى طويلاً، وأفاد الأطباء حينها أن فرص نجاته ضئيلة ، فما كان منّا إلا أن تساهلنا في الأمر وقلصنا زياراتنا إليه، وحملت بالمولود الثاني ، وانشغلنا ثم نسيناه تماماً، وتوقفنا عن دفع كلفة علاجه ، ونتفاجىء بعد عشر سنوات بشخص من المستشفى يزورنا في البيت ، ويخبرنا أن ابننا تعافى، وقام بإحضاره إلينا ، ومنذ أن أتى وهو بارد المشاعر نحونا ، ولا يتحدث معنا على الإطلاق، ويقتصر فقط على الحديث مع الطبيب الذي عالجه ، فقمنا بتغيير الطبيب لعله يغيّر من سلوكه فلم يتغير ، والغريب أن الطبيب المعالج كان يعامله طيلة تلك المدة كابن ، وتوطدت العلاقة بينهما وبين ابني وابنته التي كان يحضرها من حين لآخر لتلعب معه ، وعلمه كيف يقرأ ويكتب، بل وعلمه القرآن ، ولقد حاولنا أن نفرق بينهم فازداد الأمر سوءاً ، وعندما كان في الثالثة عشرة وافت المنية طبيبه ، وكان يتمنى رؤية الولد فلم نسمح له ، فكانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير إذ ناصبنا العداء التام منذ تلك اللحظة ، وعندما بلغ سن التاسعة عشرة أعلمنا أنه سيتزوج بنت ذاك الطبيب فحاولنا منعه ، فقال : إنه إنما أخبرنا للإعلام لا لطلب الإذن ، وتزوجها وابتعد عنّا ، وجاء لزيارتنا بعد أن أنجبوا الطفل الأول ، ومن حينها وأنا أفكر في طريقة للمّ الشمل من جديد ، فما نصيحتكم ؟
تركه أهله في المستشفى رضيعاً بسبب مرضه ، فاعتنى به الطبيب حتى كبر وأعاده إليهم، فكيف يتعاملون مع نفوره منهم ؟
السؤال: 237944
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
بداية ، أيتها السائلة الكريمة ، لا نخفيك سرا ، ولا نكتمك حديثا ؛ لقد هالنا ما حصل منكما ، أنت وزوجك ، تجاه مولودكما الصغير .
لقد “رميتما به” في “غيابة” المستشفى ، وتركتماه ، ومضيتما لحياتكما دون أدنى شعور بالمسؤولية ، أمام الله أولا ، ثم أمام أنفسكما ، ثم أمام المجتمع .
وجئتما إلى بيتكما ، ومضيتما في عيشكما وادعين ، لا تبكيان !!
لقد مضيتما في حياتكما ، وكأن شيئا لم يكن في حياتكما ، هو مولود لكما .
فلنفترض أنه مات ، ألم يكن يستحق منكما أن توارياه التراب ، ثم تمضيا لحياتكما ؟!!
لكن قضاء الله لولدكما كان أمرا آخر ، لقد اصطنع الله البر الرحيم له : من يقوم لولدكما ، بما لا يقوم به أكثر الآباء لأبنائهم .
لقد لطف الله به وصنعه ، وهيأ له هذا الطبيب ، الذي قل أن يجود الزمان بمثله .
فحدثيني بربك : كم من الناس من يصبر على ابنه المريض ؛ ليطببه ، ويرعاه ، ثم يربيه ، حتى يكبر ، ويعلمه ، ويؤدبه ، ويعلمه القرآن ؟!!
فسبحان من اصطنع للصغير الميئوس من عيشه ، الميئوس من نفعه ، سبحان من اصطنع له هذا الطبيب !!
سبحان من أبدله والدا ، خيرا من والده ، وأهلا ، خيرا من أهله ، وعيشا ، خير من بيته ، وهو بعد في هذه الدنيا : رضيع ، مريض ، ميئوس من أن يعيش ، لا يرجى نفعه ، ولا يؤمل خيره !!
ثم جاءكم ذلك العطاء ، تلك الهبة ، هذه الهدية “المجانية” : صبي ، معلم ، في سن العاشرة ، يقول لكم : “طبيبه” ، و”مربيه” إنكم ـ أنتم ـ أهله ، أمه ، وأبوه ، وهو فقط ، أمين ، قد أدى الوديعة ، والأمانة إلى أهلها !!
فـ: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) !!
(لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ ، مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ ) !!
ليتكما تركتما شكر من “وهبكما” جهده ، وعمره ، وثمرة فؤاده ، وهبكما ولدا ، وقال لكما : هذا ابنكما ، ليس لي من “نسبه” ولا “كده” : شيء .
فقط ؛ زودونا منه : الود ، واللقاء ، وحسن العهد ، والوصال !!
فأبيتما أن تزوداه إلا الجفاء ، وجزيتماه ، من بره وعطفه ، جزاء سنمار ، وحُلتما بين الحبيب وحبيبه : أن يلقاه ، أو يراه !!
غفر الله لكما ، وأصلحكما ، ما كان أقساكما على الولد ، و”مربيه” ، الذي هو خير من “أبيه” ، وما كان أشد جحودكما للإحسان ، وكفركما لنعمة بني الإنسان !!
ماذا كنتما تنتظران من الولد ؟
أن يقدم “الأب البيولوجي” الذي لم يكن يعرفه ، ولا يلقاه ، ولا يراه ، عشر سنين طوالا ؛ حتى شب عن الطوق ، وصار صبيا ، مميزا ، مُعلَّما ؛ أم يجعل قلبه ، ووده ، وبره ـ كله ـ لـ”أبيه” الذي عرفه ، ورعاه ، ورباه ؟!!
لم تكونوا بحاجة إلى ذلك “الفطام” المؤلم ، بل إلى ذلك “البتر” القاسي ، لولدكما ، عن ذلك الطبيب الرحيم ، حتى ماتمن غير أن يزود من “ولده” : نظرة ، قبل الرحيل .
ثم كانت الأقسى من ذلك : أن تهدما في نفسه ، ما بقي من ذكرى الوصال ، وطيب العيش ، وماضي الذكريات ، مع “أسرته” التي نشأ في كنفها ؟
ما كان ضركما ، لو أعنتماه على ما أراد ، وزوجتماه بتلك الفتاة .
إما رغبها لأنه تعلق بها ، أو أراد شكر الإحسان ، وحفظ الجميل ، وبقاء الذكر موصولا ؛ فما كان ضركما ، غفر الله لكما ؟!
لكن ، قد مضى ذلك كله ، وكان ما كان ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
والآن ؛ فإنما نذكر لك ذلك كله ، لتعلمي ـ أنت وزوجك ـ كم كان خطؤكما فادحا ، مركبا ، متتابعا .
لكن ربي رحمن رحيم ، فليكن أول ما تفعلانه : أن تتوبي إلى الله أنت وزوجك مما فات : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) هود/90 .
واعرفي لربك المنعم ، نعمته عليك وعلى زوجك ، أن جاء إليكما بولدكما ، من بعد أن نزغ الشيطان بينكم ، وحال بين الأسرة ، واجتماع شملها : ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) يوسف/100 .
فليكن خير كفارة ، لما تركتما من جزاء الإحسان ، وتورطتما فيه من الجحود ، والكفران : أن تحسنا غاية الإحسان لهذه الفتاة التي اختارها ولدكما زوجة له ، أحسنا إليها غاية الإحسان ، وأكرماها كل الكرامة التي تقدرون عليها ، لتكن منكما بمنزلة البنت الأثيرة المحببة إلى والديها ، بل فوق ذلك ، فإنها ابنتكما ، إذا كنتما تريدان أن تردا إحسان والدها إلى ابنكما ، إن استطعتما من ذلك الرد شيئا ، ذا بال .
وهي ، بعد ذلك ، زوجة ابنكما ، وقد كان منكما في حقه ، ما تعلمان ؛ فاستكثرا من الإحسان ، والحفظ والرعاية لهما ، والعناية بإصلاح شأنهما ، جهدكما : ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) هود/114 .
ولا نرى لكما طريقا إلى قلب ولدكما ، وإلى رأب الصدع ، ولم الشمل : إلا ذلك ، واحمدا الله أن ولدكما ، قد بقيت فيه ، رغم ذلك كله ، بقية من الوفاء ، والوصال ، ورغبة في أن يجتمع شمله بأسرته .
فقرباه ، هو وزوجته ، واجتهدا في أن يسكنا قريبا منكما ، وأن يدوم الوصال بينكما ، واجتهدا معه في طي صفحة الماضي ، وألم الذكريات القديمة .
نسأل الله أن يصلح شأنكم ، وأن يجمع شملكم ، بابنكم ، وزوجته ، على خير حال .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب